مأساة وجنون.. شاهد من غزة يكشف حقيقة الوضع الإنساني فيها

تقارير وحوارات

خالد أبو سلطان يوضح حقيقة الوضع الإنساني في غزة ويتحدث عن تجربته الشخصية مع النزوح والنجاة من الموت

23 آذار 2024

في خضم الحرب على غزة ومع ما نشاهده من موت ودمار وتهجير وجوع، ومع مشاهد المساعدات برا وجوا، تكثر الأسئلة عن حقيقة الوضع الإنساني في غزة وعن حال سكانها في هذه الأوضاع المأساوية.

حوار مع الفلسطيني خالد أبو سلطان

وللوقوف على الحقيقة حاور موقع النهضة نيوز السيد خالد أبو سلطان، المواطن الغزاوي الذي خاض تجربة النزوح، ونجا من الموت مرات عديدة، كشاهد من الأرض، وهو الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات إنسانية تكشف قليلا عن واقع شعب غزة، ويحمل شهادة بكالوريوس إذاعة وتلفزيون.

ورغم قساوة السؤال إلا أنه كان لابد من طرحه على خالد أبو سلطان، إن كان بإمكانه الحديث عن الثمن الذي دفعه والخسارة التي تكبدها منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، وما هو الشيء الذي خسره وسبب له حسرة وألما أشد من غيره؟

فأجاب أبو سلطان: " بالتأكيد هذا سؤال قاس وصعب، لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه، كان في البداية صدمة كبيرة أنني أخلي منزلي من دون سابق إنذار، والبرج الذي كنت أسكن به كان يحتوي تقريبا على ما لا يقل عن 2000 عائلة، ولم أكن أتخيل بأنها ستكون المرة الأخيرة التي أخرج بها من منزلي ولا أعود إليه، فلو أنني كنت أعلم ذلك لكنت قبلت جدران منزلي لأنها بالنسبة لي تعتبر أكثر من مجرد جدران، فهذه ذكرياتي وعمري الذي ذهب هناك، فقد خسرت منزلي وعملي وكان لدي متجر أون لاين مع زوجتي ولم يكن لدي الإمكانية في ظل الوضع الصعب والمأساوي في غزة بأن أفتح متجرا فاخترت أن يكون منزلي أي مكان سكني هو مكان عملي، فقد كان لدي في المنزل غرفة فارغة كان من المفترض أن تكون للأولاد لكن والحمد لله على كل شيء لم يرزقني الله بهم، فاخترت أن يكون لدي مشروع يعبر عن قصة حبنا أنا وزوجتي، بعنوان love couple fashion."

تجربة النزوح في غزة

وردا على سؤال عن تجربة النزوح التي خاضها لأكثر من مرة وعن وصفه لها والأثر الذي تركته في نفسه، أوضح خالد بأن "هذه التجربة هي الأمر المضحك المبكي فقد نزحت لأكثر من تسع مرات في محاولة مني للنجاة، وكلما كنت أذهب إلى مكان كان الإسرائيلي يقوم بتهديده، فلا وجود لمكان آمن، فنزحت من أماكن كثيرة ونمت في المستشفى وفي الشارع وفي الخيمة، وفي النهاية موجود الآن في مكان ولربما أدخل موسوعة غينيس وتكون المرة العاشرة التي أنزح فيها، فهذا شعور صعب أن تكون في مكان وتقول بأنني من هذا المكان سأعود إلى منزلي أو إلى ركام منزلي، المكان الذي قضيت به 12 سنة من عمري وبعدها تنزح منه لمكان آخر فهذا شعور صعب كأن الروح تخرج من الجسد."

نجاة خالد أبو سلطان من الموت

ومن خلال الاطلاع على حسابه على فيسبوك سأل النهضة نيوز: أنت ذكرت في أحد فيديوهاتك المنشورة بأنك نجوت من الموت مرات عديدة، أخبرنا إن أسعفتك الذاكرة عن بعض هذه اللحظات الصعبة؟

فأجاب أبو سلطان: "أتمنى لو أستطيع أن أمحي ذاكرتي، لكن ومهما مر علي من العمر لا يمكن أن أنسى هذه الحرب الضروس وحرب الإبادة التي تجري، فأنا نجوت من الموت بفضل الله أكثر من 5 أو 6 مرات لكن أخطرها كان عندما قصفوا منزلا بجوارنا وكان يفصلني عن الموت شعرة، فكأن المرء يشاهد الموت ولا يناله، وهذا شعور صعب جدا أن ترى الموت مرات وفي إحداها يكون قريبا منك كثيرا ولا تطاله، وأعيد دائما هذا القول: نجا من مات ومات من نجا."

المستقبل في غزة

وفي جوابه على سؤال عن رؤيته لمستقبله في غزة، وهل حسم خياره بين الحياة بعيدا عنها وبين البقاء والتمسك بالأرض؟ مع كامل الاحترام لخياره أيا كان، أجاب أبو سلطان بصراحة بأن هناك أناس كثر ممن خسروا أرضهم ومنازلهم وأموالهم وكل شيء، قد قرروا الخروج من غزة، مردفا بالقول "لكن من يملك خمسة أو ستة آلاف دولار للشخص الواحد كي يخرج من غزة، فيجب على الشخص الراغب في المغادرة أن يدفع هذا المبلغ كي يخرج فقط بما تبقى من روحه من هذه الإبادة.

وأضاف: "لدي وجهة نظر في موضوع التمسك بالأرض بأن جميعها أرض الله، لكن في النهاية هذه أرضي ووطني وصحيح أني عشت في غزة 12 سنة وليس كل عمري، لكن الاحتلال لم يُبق لنا أي مقوم للحياة، فالمياه نجدها فقط في البراميل، ولا وجود للكهرباء ونقطع أميالا لأجل الحصول على الكهرباء أو لأجل أن نجد إنترنت، وكل حياتنا مخاطرة بمخاطرة، إضافة إلى الفلتان الأمني، وعدم وجود أي أفق، وإضافة لكوني قد خسرت منزلي وعملي وأكثر من 70 إلى 80 ألف دولار وحاليا لا أملك شيئا مع الأسف."

أوضاع السكان في غزة

وعن حال السكان في غزة، كيف يعيشون وما هي أوضاعهم، كيف ينامون، وكيف يأكلون ويشربون، أجاب أبو سلطان كشاهد من داخل غزة قائلا: "مهما حاولت أن أصف أوضاع الناس في غزة فلن أستطيع، فالناس وضعهم مُبكي ويدمي الحجر، الناس في الخيم وفي الشوارع، حتى الذين يسكنون في المنازل، ستجد في المنزل الواحد أكثر من 100 إلى 200 شخص، أي أن 30 إلى 40 شخص ستجدهم في الغرفة الواحدة، فالخصوصية والحياة الطبيعية معدومة، وليس هناك مياه ولا كهرباء ولا طعام، فهذا وضع جنوني ولا توجد أي كلمات يمكنها التعبير مهما حاولت الوصف، ولربما أحتاج لمصطلحات جديدة حتى أتمكن فقط من وصف حال الناس، فما تروه أنتم لا يتعدى 2 إلى 3 في المئة من الذي نعيشه في غزة."

المساعدات إلى غزة تصطدم بالفلتان الأمني وتجار الحروب

وتساءلت النهضة نيوز عن عشرات آلاف العائلات التي نزحت من شمال غزة إلى جنوبها وهم متواجدون في خيم في رفح كما تمت مشاهدتها في الصور، وكان الظن بأن هذه الخيم مجانية جاءت على شكل مساعدات، لكن ومن ملاحظة ما ينشره خالد عبر صفحته في فيسبوك من مناشدات، بعضها يعلن عن حاجته إلى خيمة تؤويه وعائلته وطبعا لها ثمن، وبعضها ممن وجد خيمة ولا يملك دفع ثمنها، فهل ما نراه من خيم هي مدفوعة الثمن وليست مجانية، وهل هناك متاجرة بالمساعدات التي تأتي إلى غزة؟

وأجاب أبو سلطان بالقول: "أحد أصدقائي أخبرني أمس بأنه طلب خيمة من ثلاث شهور ولم يحصل عليها، وهذه الأمور كنت أوزعها مجانا، لكن في هذه الحرب من الصعب جدا أن نضبط الفلتان الذي يحصل، وأن نضبط عدم حصول سرقة، فهذه حرب وهناك انفلات أمني وقطاع طرق، فمن الصعب ضبط هذه الأمور، وكنا دائما ما نسمع عن تجار الحروب لكنني لأول مرة أراهم أمام عينيَّ."

وأضاف: " بالنسبة للمساعدات فهذه حرب ضروس ولا يستطيع أحد أن يتحكم بأخلاق الجميع، فللأسف هناك مساعدات يتم بيعها، وهناك قطاع طرق وسارقون، وهناك من يتاجر في معاناة الناس، فبالطبع نحن بشر ولسنا أنبياء فلا يمكن أن يتم منع هذه الأمور."

الواقع الإنساني في شمال غزة وجنوبها

وحول تأكيده في أحد منشوراته وجود اكتفاء من الطعام والشراب جنوب غزة مقابل الوضع المأساوي في الشمال، سألت النهضة نيوز إن كان يعني ذلك بأن ما يتم إدخاله من مساعدات إلى الجنوب كاف وكل الحديث عن المجاعة يقتصر على من هم في الشمال؟

فبين أبو سلطان بأنه: "بالنسبة للطعام والشراب في الجنوب فصحيح أنه متوفر مقارنة بالشمال، لكن عندما تدخل إلى غزة أكثر من 700 شاحنة طعام وشراب في الأيام الطبيعية، والآن في الحرب تقوم بإدخال 200 شاحنة فقط يوميا، فقطاع غزة يستهلك الطعام والشراب بشكل كبير جدا إضافة للاكتظاظ السكاني الذي لا يوصف هنا، فهذا مأساة حقيقية، لكن الطعام والشراب في الجنوب رغم قلته أفضل ألف مرة من الشمال، لكن النقطة المهمة هي أن الشمال يفتقد بشدة إلى الطعام والشراب، فالاحتياجات التي تنقصنا في الجنوب هي الملابس بشكل كبير جدا لأن هناك الكثير من النازحين خرجوا ولبس معهم سوى الملابس التي يرتدوها وأنا واحد منهم، والشيء الثاني هو الحفاضات والحليب، فمن لديهم أطفال كان الله في عونهم، فالحفاضات التي كان سعرها 20 شيكل أصبح سعرها 200 شيكل، وعلبة الحليب التي كان سعرها 15 شيكل أصبحت 100 شيكل، فرغم الحرب هناك حرب أخرى فالواقع جنوني وشيء لا يوصف."

هل يسهم إنزال المساعدات إلى غزة عبر المظلات في تخفيف المعاناة

وفي سياق متصل بالسؤال السابق وجهت النهضة نيوز سؤال إلى خالد أبو سلطان عن كيفية تقييمه للمساعدات التي يتم إنزالها بالمظلات إلى شمال غزة وهل هي الطريقة الصحيحة بنظره كمواطن على الأرض، وهل تفي بحاجة الناس هناك؟

وأوضح أبو سلطان ذلك بالقول: "بواقعية يجب أن نُفصَّل الأمر فالشاحنات التي تدخل إلى الشمال يتم استهدافها من الاحتلال الإسرائيلي، إضافة لوجود قطاع طرق ومسلحين يأخذون المساعدات فيقع المواطن المطحون بين الاحتلال وبطشه، والناس الخارجة عن القانون أو الذي يملكون أسلحة وتهاجم المدنيين، علما أن لا أحد يعلم من هم هؤلاء، ولذا أعود لأكرر بأن هذه حرب ولا يمكن ضبط أخلاق الجميع."

وتابع قائلا: "بالنسبة لموضع المظلات فهناك أناس تقول بأنها إنزال جوي وآخرين يقولون إذلال جوي، لكن السؤال ما هو هدفها، فأنا لا أعلم بالتحديد من يقوم بالإنزال في الشمال لكن مهما أنزلت هذه الدول من مساعدات عبر المظلات في الشمال فلا تعادل شاحنتين، وهناك نحو نصف مليون إنسان لا يملكون طعاما ولا شرابا، فهذه هي المعضلة الكبيرة، لا سيما أن إنزال هذه المساعدات يتم بشكل عشوائي دون خطة واضحة أو أفق للناس كي يتمكنوا من الحصول على لقمة العيش."

نشاط خالد أبو سلطان الإنساني

وحول نشاطه الإنساني والمناشدات التي ينشرها على صفحته في فيسبوك، وإن كانت تُثمر في تأمين الطلبات التي يقوم بنشرها والمتضمنة ما يحتاجه أصحابها، لفت إلى أنه كأي مواطن نازح خرج من منزله وخسر كل شيء، وأن هناك أناس تراسله على مواقع التواصل بأنها تريد هذا الأمر وذاك الأمر، لكن ما يقوم به عبارة عن نشر البوست الذي يتضمن حاجة العائلات ويربط الناس ببعضها، مؤكدا عدم وجود أي مصلحة أو هدف له من كل هذا الأمر، وأن كل ما يقوم به عبارة عن إنسان يشعر بإنسان فقط.

عدد سكان شمال غزة الذين بقوا رغم الإجرام الإسرائيلي

وسألت النهضة نيوز، عن عدد السكان في شمال غزة على الرغم من كل القصف وعمليات التهجير الكبيرة من الشمال للجنوب، والتي ظن الكثيرون بسببها بأن الشمال أصبح خاليا من السكان، وإن كان هؤلاء قد بقوا في الشمال رغم القصف، أم نزحوا ثم عادوا إليه مرة أخرى؟

ورد خالد أبو سلطان قائلا: "صحيح أن هناك أكثر من مليون ونصف نازح وربما أقل بقليل من 2 مليون هنا في جنوب غزة، لكن غير صحيح أنه تم إخلاء الشمال من السكان، فهناك يتواجد نحو 200 ألف شخص إلى 500 ألف تقريبا وربما يزيدوا قليلا، فهناك في الشمال أناس يتواجدون وهم بشر وليسوا حجرا، ومن بقي في الشمال بقي لأن لديه غرفة تؤويه، فأنا واحد من الناس لو تبقى لدي أو لأحد أفراد عائلتي كلها منزل كنت سأبقى وأتواجد هناك، بغض النظر عن الطعام والشراب، فأغلب الذين أتوا من الشمال جاؤوا من أجل أطفالهم لأنهم لا يملكون الطعام والشراب، أما إن كنا نريد أن نتكلم بأننا صامدون وأننا من فولاذ، فصحيح بأننا صامدون وصابرون وهذه أرضنا لكن هناك طاقة للتحمل وهناك أطفال يموتون من الجوع وهناك رجال كبار في السن لا يتحملون، فهل يمكن أن أقول لطفل صغير أن يصبر، فهو لا يمكن أن يفهم هذه الأمور وهو لا يجد حتى الطعام، فهذا الموضوع إنساني بحت، فأنا أتكلم هنا وأرغب بالبكاء من هول ما رأيناه."

رسالة خالد أبو سلطان إلى العالم

وفي الختام سألت النهضة نيوز إن كان من رسالة يود أبو سلطان توجيهها للعالم عن الظروف الإنسانية المأساوية في غزة، فقال: "رسالتي للعالم هي أن ينظروا إلينا بعين الرحمة، فهنا شعب له أكثر من 75 سنة يعاني، ويحاربه كل العالم لأنه يتكلم كلمة حق بغض النظر عن الأمور السياسية فأنا ليس لدي آراء سياسية بل أنا مع المواطن المطحون مع الطفل والمرأة والناس المظلومة، فهل بقي هناك أكثر مما جرى لهذا الشعب من إبادة وتهجير وتجويع وغلاء، فهذا كله جنوني وفوق طاقة أي بشر."

وختم بالقول: "رسالتي للعالم أجمع هي ألا تعتادوا النعم، إياكم واعتياد النعم، فأنا واحد من كثيرين كنت في منزلي ولدي الطعام والشراب بغض النظر عن الأمور الصعبة في قطاع غزة تحديدا، لكن هذا كله ذهب في لحظة واحدة، فأنا أقول لكل العالم أنتم في نعمة كبيرة جدا لا تشعرون بها فإياكم والتذمر والشكوى، وإياكم اعتياد النعم فربما تفقدوها في أي لحظة."