"ناشونال إنترست": الشرق الأوسط لم يعد أولوية أمريكية

القوات الأمريكية تستعد للانسحاب من العراق عام 2020 القوات الأمريكية تستعد للانسحاب من العراق عام 2020

بين الكاتب شون يوم، أستاذ في العلوم السياسية، في مقال كتبه على موقع "ناشونال إنترست"، أن الانسحابات العسكرية الأمريكية لا تعكس الإرهاق الذي أصاب الولايات المتحدة من سياسة التدخل السابقة فحسب، بل تعكس أيضاً الواقع الجديد الذي يقول إن الشرق الأوسط لم يعد يحظى بأهمية وجودية لازدهار أمريكا وأمنها.

بدأ شون يوم بالقول إن انسحاب قوات إدارة بايدن من أفغانستان والعراق والخليج أثارت إدانات لتخلي أمريكا عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن، كما هو حال كل الأمور في المنطقة، المضمون هو الأهم، إذ إن عمليات الانسحاب هذه ليست إلا أحدث خطوة في عملية استمرت عقداً من الزمن من تقليص الولايات المتحدة لمسؤولياتها الناجمة عن الهيمنة على المنطقة، وهذا لا يعكس إرهاقها من سياسة التدخل السابقة، بل يعكس أيضاً الواقع الجديد في أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لم تعد تحظى بأهمية وجودية لازدهار أمريكا وأمنها.

ومنذ أسس كارتر عقيدته عام 1980 وحتى ولاية بوش الثانية، تجلت الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في رغبتها اللامحدودة وقدرتها على إرغام الدول المحلية على الطاعة. وحتى البريطانيون أو الفرنسيون أو العثمانيون لم يمتلكوا هذا القدر من السيطرة على الشؤون الإقليمية. والتهديد المقنع بالتدخل العسكري، إلى جانب أسطول من الموارد الدبلوماسية والاقتصادية، مكّن واشنطن من ترهيب كثير من الدول الإقليمية ومداهنتها وإغرائها بحيث تتبنى سياسات تدعم المصالح الأمريكية الأساسية المتعلقة بالطاقة ومكافحة الإرهاب وأمن إسرائيل وقضايا أخرى. بيد أن هذه الهيمنة تركت وراءها فراغاً هائلاً. تأمل سجل التدخلات الأمريكية في ليبيا والسودان ولبنان والعراق وإيران والكويت وسوريا، وعملياتها الاستخباراتية الضخمة التي بدأتها الحرب على الإرهاب، وشبكتها الواسعة من القواعد العسكرية، والاعتماد على الأسلحة، وأساطيل الطائرات المسيرة. لقد نضج جيل من شعوب العالم العربي وإيران وهم يعلمون أن الولايات المتحدة وحدها - وليس الأوروبيين أو الروس أو الصينيين - هي التي القوة العظمى التي غيرت الحقائق الاستراتيجية على الأرض.

وتابع الكاتب: تغير أمر ما بعد إدارة بوش، أمر بدأه باراك أوباما، وتابعه دونالد ترامب، والآن رسّخ جو بايدن مبادئ جديدة في السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو أن الهيمنة والتدخل يكلفان الولايات المتحدة أكثر مما تجنيه بكثير، وأن على واشنطن أن تضع مسؤولية حل المشكلات المحلية على عاتق الدول المحلية. ضع في اعتبارك لامبالاة أوباما النسبية تجاه الربيع العربي، أو حقيقة أن التدخل في ليبيا كان محدود النطاق حتى إن التنبؤ بما سيحدث بعد سقوط معمر القذافي لم يلق اهتماماً كبيراً. وبالمثل، لنتذكر أن ترامب لم يتخل عن القيادة الأمريكية في الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية فحسب، بل أظهر أيضاً عدم رغبته في شن حرب، بالرغم من السلوك الإيراني غير المسبوق عبر الخليج واليمن والعراق. وبعد غزو العراق تحدث جورج دبليو بوش عن احتلال طهران، لكن فريق الأمن القومي في إدارة ترامب لم يتمكن حتى من احتوائها.

وأكد المقال أن الولايات المتحدة لن تنسحب كلياً، بقدر ما تعمل على نقل قدراتها إلى بلدان أخرى، إذ لم تعد تؤدي دور الشرطي الذي يقوم بدورية ليلية، بل أعاد ضبط دورها لتمسي رجل إطفاء عند الضرورة، حيث تبدأ العمل لوقف الفوضى الكاملة وحسب، كأن تظهر داعش فجأة على أبواب بغداد ودمشق وعمان. ومع ذلك، هذا لا يعني التخلي عن المصالح الإستراتيجية الأمريكية، لأن المصالح التي كانت تتطلب في السابق تدخلاً كبيراً لم تعد موجودة. فعلى عكس الثمانينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمثل تهديدات رهيبة تعرض المجتمع والاقتصاد والمؤسسات الأمريكية للخطر. ومن الناحية العسكرية، لا توجد جهة فاعلة قادرة على مهاجمة الأراضي الأمريكية. ومن الناحية الاقتصادية، يعني استقلال الطاقة الأمريكية وتطورات السوق العالمية أن الصناعات والمستهلكين الأمريكيين لم يعودوا مدينين لحقول الغاز والنفط العربية. أما من الناحية الدبلوماسية، سيحظى الحلفاء الإقليميون المقربون بالاهتمام دائماً، لكن معظمهم (باستثناء الأردن ربما) لا يحتاجون إلى حماية مستمرة كما كانوا من قبل. إسرائيل، على سبيل المثال، أبرمت السلام مع ست دول عربية.

وختم الكاتب بالقول: أولئك الذين ينتقدون هذا الانسحاب يقترحون بمنطقهم العودة إلى التدخل السابق. وردود الفعل هذه مفهومة، فاندثار هيمنة القوة العظمى في أي منطقة يسبب دوماً حالة مزعجة من انعدام اليقين، فبعد سحب البريطانيين لقواتهم من الخليج في عام 1971، على سبيل المثال، ساعدت المخاوف من الشيوعية وعدم الاستقرار في شبه الجزيرة العربية على بناء الزخم لعصر جديد من الهيمنة الأمريكية. ومع ذلك، فإن إقناع الناخبين وصانعي السياسة الأمريكيين بعكس مسارهم الآن مهمة شاقة. ويعني إثبات أن شيئاً ما في الشرق الأوسط يهدد بشكل مقنع ازدهار واستقرار الديمقراطية الأمريكية. لا بد أن يكون الأمر يستحق التضحية بأرواح المواطنين في الأراضي البعيدة وإنفاق الموارد المحلية التي قد تضيع إلى الأبد. وحتى يحدث هذا، سيستمر الانسحاب، إن خيراً أو شراً.

ناشونال إنترست