نجح البروفسور الفرنسي من أصل لبناني جان مارك أيوبي، للمرة الثانية خلال عامين، في زراعة رحمين في أحشاء سيدتين وُلدتا بلا رحم، وهو تشوّه يصيب امرأة من أصل ٤٥٠٠ امرأة في العالم ويسمّى بمتلازمة ماير-روكيتانسكي-كوستر-هاوزر (MRKH).
هو رجل كرّس حياته لإعطاء المرأة أملاً جديداً في علاج العقم الناجم عن هذه المتلازمة. ولهذا رأت صحيفة "leparisien" الفرنسية من الواجب تسليط الضوء على إنجازاته في عددها الذي صدر نهاية الأسبوع الماضي.
في المرة الأولى أسفرت العمليّة عن ولادة "الطفلة المعجزة" ميشا، واستغرق الأمر ثلاثة عشر عاماً مع البروفسور أيوبي وفريقه، وهو رئيس قسم جراحة أمراض النساء والتوليد والعقم ورئيس خدمات الطب التناسلي في مستشفى فوش في سورين، "لإصلاح هذا الظلم بحق المرأة" الناجم عن العقم.
ولفتت الصحيفة إلى أن البروفسور أيوبي يتحدّث بشغف عن السنوات التي أمضاها في البحث والتنقيب عن البيانات في هذا المجال، إذ قال:
"في العام ٢٠٠٦، عندما عُيّنت رئيساً لقسم أمراض النساء والتوليد في مستشفى فوش في سورين (Hauts-de-Seine)، التي تعد رائدة في مجال زراعة الأعضاء، كان فريق من الاختصاصيين في الأقسام الأخرى يجري أبحاثاً على النساء اللواتي يعانين من متلازمة (MRKH)، منذ تلك اللحظة بدأنا بالتفكير بإقامة مشروع بحثيّ حول زراعة الرحم يرفع الظلم عن تلك الفئة من السيدات. وبدأ السير "بطريق الجلجلة"… فقد كان من الضروري إقناع الهيئات المرجعية المختلفة في فرنسا، بهذه العمليّة التي وصفوها بالـ "ثقيلة"، بدءاً من لجنة الأخلاقيات الاستشارية الوطنية، ولجنة حماية الأشخاص، ولجنة المتبرّعين الأحياء، والأكاديميّة الوطنيّة للطبّ، ووكالة الطبّ الحيوي، والوكالة الوطنيّة لسلامة الأدوية (ANSM)"، خصوصاً وأنّ التّبني وعلى الرغم من صعوبة إجراءاته مشرّع في فرنسا، في حين أنّ تأجير الأرحام (GPA)، محظور.
ونوهت الصحيفة بأن من أكثر الأسئلة التي أثارت الجدل، وحاول البروفسور أيوبي وفريقه العمل عليها لأخذ الإذن بإجراء عمليّات زراعة الرحم، هو إذا كان الرحم عضواً حيوياً وإذا كان بإمكان المرأة أن تعيش من دونه.
وفي هذا أوضح أيوبي: "على الرغم من أنه مرتبط تماماً بالحياة، ولا يمكن عدّه عضواً عادياً، فقد استغرق العمل تسع سنوات من الأخذ والردّ والعمل المضني حتى حصلنا على الموافقة، في حين حصل الفريق السويدي الذي كان يتعاون معنا، على الموافقة خلال ستة أشهر، مما اضطرنا للسفر بانتظام إلى غوتنبرغ في السويد، لحضور عمليات زراعة الرحم الرائدة هناك، بقيادة البروفيسور ماتس برينستروم. مكننا هذا التعاون، الذي وُلد في العام ٢٠٠٨، أيضاً من تطوير تقنية التشغيل لأخذ العينات عن طريق الجراحة الروبوتية، في مستشفى فوش، والتي أصبحت منذ ذلك الحين من أهم المستشفيات الفرنسية التي تجري عملية استئصال الرحم".
وأضاف: "تناوب على ذلك أكثر من خمسة وعشرين باحثاً، الذين انكبوا على كتابة الأطروحات العلميّة، والمنشورات الدوليّة وكل ذلك جاء بدافع التفاني في سبيل الحق بالأمومة، وانطلقوا تحت اسم، "العضو غير الحيوي الذي يهب الحياة". إلى أن جاء اليوم الذي طال انتظاره، ففي شهر حزيران (يونيو) ٢٠١٧، أعطت والوكالة الوطنيّة لسلامة الأدوية ANSM الإذن لإجراء عملية الزرع.
وفي العام ٢٠١٩، بعد ثلاثة عشر عاماً من العمل المضني حقق هذا المركز الطبي الأول في فرنسا هدفه، بمؤازرة فريق من المتخصّصين والمتطوّعين.
وبعد عام ونصف العام، في ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٢١ أُعلنت ولادة "الطفلة المعجزة" ميشا، بحسب وصف أيوبي الذي قال: "الطفلة التي وُلدت من خلال رحم وهبته جدتها، البالغة من العمر ٥٧ عاماً لابنتها ديبورا (والدة ميشا) التي وُلدت بمتلازمة (MRKH)".
مراحل عملية زراعة الرحم الأولى
وشدد أيوبي على أنّ هذا النوع من الزرع لا يحدث بين ليلة وضحاها، وإنما هو رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة، على حد وصفه.
وتابع: "تبدأ الخطوة الأولى مع توقيع المرضى المشمولين بالبروتوكول على موافقة مستنيرة، فالقانون الفرنسي يقتضي أنّ يذهب المانح والمتلقّي إلى لجنة مستقلّة، (لجنة المانحين الأحياء) للتأكد من أنهما قد أُبلغا ووافقا، ثمّ عليهما أن ينتظرا ثلاثة أشهر، مخصّصة للتفكير قبل التوقيع، ليقام بعدها باستخراج البويضات والتخصيب وتجميد الأجنّة".
ورأى أن المرحلة الأكثر دقّة هي عمليّة استئصال الرحم، التي تستغرق من اثنتي عشرة إلى أربعة عشر ساعة، لننتقل بعدها إلى مرحلة الزرع التي تستمر ما بين ست وثماني ساعات".
وأضاف: "تقسّمنا خلال إجراء العمليّة إلى ثلاثة فرق، الفريق الأول والثاني موزعين على مبنَيَين مختلِفَين من مستشفى فوش، حيث يجري الاستئصال والزرع، في حين يتنقّل الثالث بين القسمين، وبين يديه الرحم، أو بالأحرى الحياة… حقاً إنه أمر لا يوصف".
وقال: "أما المرحلة الثالثة تتمثل في عملية إيصال أوعية الرحم المزروع بأوعية المتلقي وبداية تدفّق الدم من خلال أوعية في غاية الدقّة يصل قطرها إلى ميليمتر واحد، فيقول: "ما أن نسمع هذا الصوت المكتوم من خلال إجراء صدى الدوبلر بوم… بوم… بوم… حتى ندرك نجاح التدخّل".
وأشار أيوبي إلى أن الواهبة انقطع الحيض عندها قبل سنوات، في حين أنّ ديبورا لم تعرفه بحياتها كون الذين يعانون من متلازمة MRKH لديهم مبيض، ولكن لا يحدث لديهن حيض بسبب عدم وجود رحم.
وخلال خمسة وعشرين يوماً حدث أول حيض في حياة ديبورا، وأوضح: "بمجرّد زرع الرحم في البيئة الهرمونية للمتلقيّة، تبدأ بطانته بالنمو ويبدأ نسيجه الداخلي بإظهار استعداداً شهرياً لاستقبال الجنين".
وتابع: "ثم علينا أن ننتظر بضعة أشهر حتى يلتئم الرحم جيداً، لنقوم بعدها بزراعة الجنين بواسطة تقنية طفل الأنبوب، كنا مستعدين للبدء في آذار (مارس) ٢٠٢٠، لكن الحجر الصحّي الذي فرضته جائحة كورونا أعاق العمليّة، وكانت هذه هي المرة الأولى والوحيدة التي نرى فيها ديبورا تنهار، وكان لدينا هاجس واحد… تحصين مناعتها".
وأردف: "مع بداية تموز (يوليو) ٢٠٢٠ أتى القرار بنقل الأجنّة… وحملت ديبورا، إلا أنّ الحجر الثاني في الخريف أفسد خططنا مرة أخرى. كان علينا مراقبتها عن كثب، وبما أنها تعيش في مدينة "كان"، قمت شخصيّا برحلات عدّة محمّلاً بكل ما يلزم من معدّات طبيّة، وذلك لمنعها من التنقّل تفادياً لتعرّضها لأي مكروه قد يؤثّر على حملها".
وقال حينذاك: "لا أنسى يوم الثاني عشر من شباط (فبراير) ٢٠٢١، إذ كانت ديبورا في أسبوعها الثالث والثلاثين من الحمل: بدأت تشعر بآلام المخاض من طلق وانقباضات فقررنا إجراء العمليّة القيصريّة…"
وأضاف: "عندما حملت الطفلة ميشا، بين يديّ، كان الأمر أشبه بالخيال العلمي، فلطالما تساءلنا إذا كان ممكناً أن يحصل هذا في يوم من الأيام، لكن صرختها الأولى أكدت لنا أننا نعيش حقيقة وليس خيالاً، فميشا التي ستحتفل بعيد ميلادها الثاني قريباً، ستصبح الشقيقة الكبرى إذ إنّ والدتها ديبورا تنتظر مولودها "المعجزة" الثاني، إلا أنها ستبقى تحت المراقبة، وكذلك الطفلين، لمدة خمس سنوات، بعد ذلك، عند أخذ القرار بالتوقف عن الانجاب، نزيل الرحم لمنع المريضة من العيش إلى الأبد تحت العلاج، وبذلك ينتهي البروتوكول المطلوب عند إزالة العضو المزروع".
استئصال الرحم من دون جراحة
وأفادت الصحيفة بأن فريق البروفيسور أيوبي كرر في ١٧ أيلول (سبتمبر) الماضي إنجازه العلمي بعد أنّ تبرّعت أخت تبلغ من العمر ٤١ عاماً برحمها إلى أختها الصغرى، البالغة من العمر ٣٦ عاماً، إلا أنّه هذه المرّة جاء الاستئصال بعملية "روبوتية" بسيطة، من دون فتح البطن كما في العام ٢٠١٩"، ولفتت إلى أن المتلقيّة تنتظر حلول الربيع لزرع الجنين في أحشائها.
وعاين البروفسور جان مارك أيوبي أكثر من ألف مريضة منذ عام ٢٠٠٨ بعضهن وُلدن من دون رحم، والبعض الآخر جرى استئصال أرحامهنّ بسبب الإصابة بسرطان الجهاز التناسلي، أما الاختيار فيكون حسب الأفضلية، ووفقاً لمعايير البروتوكول الصارمة.
وأكد أيوبي: "نحن نعمل بمؤازرة متطوعين من جمعيات تهتم بمرضى هذه المتلازمة، وأطباء نفسيين أدوا أدواراً أساسية في زيادة الوعي بين النساء إضافة إلى فريق طبيّ مهمّته القيام بالأبحاث ومواكبة آخر ما توصّلت إليه".
وبيّن أن الفريق يحاول أثناء الاجتماع مع المرضى وفحصهم تقليل المخاطر التي يتعرض لها المتبرّع والمتلقّي، كما يجب التأكد من أن الرحم المراد زرعه وظيفي وصحي، من دون آفات سرطانية أو فيروسية أو أورام ليفية، مؤكداً ضرورة التحقق من التوافق المناعي بين المتبرع والمتلقي واستقرارهما. خلال البروتوكول، تكون المشاورات مع أطباء نفسيين منتظمة، ولفت إلى أن الفريق اختار المريضة الثالثة و… "نستمر".
leparisien + newsalist