توصلت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة ولاية مونتانا إلى أن الحياة الميكروبية في حوض السخان السفلي بمنتزه يلوستون الوطني قد توفر أدلة حول كيفية تطور الكائنات الحية لاستخدام الأكسجين.
تعيش الكائنات الدقيقة في ينابيع أوكتوبوس وكونش داخل تراكيب هلامية شبيهة بالطحالب تتحرك بشكل مستمر في التيارات فائقة السخونة، حيث تصل درجة الحرارة إلى حوالي 88 درجة مئوية (190 درجة فهرنهايت)، وتشير التحليلات الجينية إلى أن هذه الميكروبات تشترك في العديد من الخصائص مع البكتيريا والعتائق القديمة، مما يجعلها نافذة على "الحساء البدائي" الذي انبثقت منه الحياة.
اختلافات بيئية بين الينابيع تكشف أسرار البقاء قبل الأكسجين
على الرغم من التشابه بين المجتمعات الميكروبية في ينابيع أوكتوبوس وكونش، إلا أن بيئتهما تختلف من نواحٍ جوهرية:
مستويات الأكسجين: تحتوي ينابيع أوكتوبوس على تركيز عالٍ من الأكسجين الذائب (حوالي 20 ميكرومولار)، في حين أن ينابيع كونش تكاد تخلو من الأكسجين (أقل من 1 ميكرومولار).
مستويات الكبريتيد السام: تحتوي ينابيع كونش على أكثر من 120 ميكرومولار من الكبريتيد الذائب، مقارنةً بأقل من 2-3 ميكرومولار في ينابيع أوكتوبوس.
هذه الفروقات الكيميائية تجعل مقارنة المجتمعات الميكروبية في كلا الينبوعين وسيلة لفهم كيفية تكيف الحياة مع التغيرات البيئية، خاصة قبل وبعد حدث الأكسدة العظيم (GOE)، الذي أدى إلى تدفق الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض قبل حوالي 2.5 مليار سنة.
كيف نجت الكائنات الحية من الزيادة المفاجئة في الأكسجين؟
في المراحل المبكرة من تاريخ الأرض، طورت الميكروبات آليات لاستغلال كميات ضئيلة من الأكسجين في عملياتها الحيوية، ومع ذلك تطلب ظهور الأكسجين الجزيئي عالي التفاعل تطوير استراتيجيات دفاعية جديدة تمامًا للبقاء.
والأمر الأكثر تعقيدا هو أن التركيزات العالية من الكبريتيد يمكن أن تعطل آليات التنفس في الكائنات الهوائية الحديثة، مما يثير تساؤلات حول كيفية تكيف الكائنات الحية القديمة في الينابيع الساخنة مع ارتفاع مستويات الأكسجين.
الينابيع الساخنة كنموذج لحياة ما قبل الأكسدة
بفضل مستويات الأكسجين والكبريتيد المتباينة بشدة، يمكن اعتبار الينابيع الساخنة نموذجا حيا يمثل البيئات الحيوية قبل وبعد حدث الأكسدة العظيم. هذه الاختلافات تتيح للعلماء فرصة مثالية لاستخلاص أدلة حول هذا التحول المحوري في تاريخ الحياة.
قاد الدراسة بيل إنسكيب، عالم الجيوميكروبيولوجيا، الذي يدرس الميكروبات المحبة للحرارة في يلوستون منذ عام 1999، وصرح قائلاً:
"من الصعب جدا إعادة إنتاج مثل هذه التجربة في المختبر، تخيل محاولة إنشاء تيارات مائية ساخنة تحتوي على كميات دقيقة من الأكسجين والكبريتيد!"
وأضاف:
"هذا ما يجعل دراسة هذه البيئات مثيرة للغاية، إذ يمكننا ملاحظة تأثير الظروف الكيميائية الحقيقية على هذه الكائنات الحية في بيئتها الطبيعية."
تحليل جيني يكشف استراتيجيات البقاء
من خلال تحليل الجينات ومنتجاتها في عينات الميكروبات، تمكن الباحثون من مقارنة التنوع الميكروبي ومستويات النشاط التنفسي بين الينبوعين.
كتب إنسكيب في تقريره:
"المجتمعات الميكروبية في شكل 'الخيوط الهلامية' مرئية بالعين المجردة، مما يدل على أن تبادل الغازات ضروري لنموها الأمثل، وهو ما يتأثر أيضًا بالحركة السريعة لهذه التراكيب التي تزيد من معدلات التبادل الغازي مع الغلاف الجوي."
في ينابيع أوكتوبوس الغنية بالأكسجين، كان هناك تنوع أكبر من الميكروبات التي تعتمد على استهلاك الكائنات الأخرى للحصول على الطاقة، بدلاً من إنتاج غذائها عبر التفاعلات الكيميائية. كما أن جميع الميكروبات تقريبا في هذه البيئة كانت تمتلك جينات نشطة للتنفس الهوائي.
لكن حتى في ينابيع كونش الفقيرة بالأكسجين والغنية بالكبريتيد، والتي تتميز بتنويع ميكروبي أقل ضمن "الخيوط الهلامية اللزجة"، كان هناك دليل على وجود إمكانات كامنة لاستخدام الأكسجين.
الإنزيمات عالية الحساسية تكشف مفاجآت مثيرة
وجد الفريق البحثي أن مجموعة متنوعة من الإنزيمات التي تعمل على إزالة الأكسجين بإضافة الهيدروجين كانت موجودة في الميكروبات الأكثر شيوعًا في الينبوعين، وكانت نشطة في كلتا البيئتين، ولكن الأهم من ذلك، أن الإنزيمات ذات أعلى حساسية للأكسجين كانت نشطة فقط في البيئة ذات التركيزات العالية من الكبريتيد.
وكتب إنسكيب في دراسته: "هذه الإنزيمات الفائقة الحساسية للأكسجين نشطة عند مستويات نانومولارية، مما يفسر المعدلات العالية من التعبير الجيني التي لاحظناها في الظروف الغنية بالكبريتيد في ينابيع كونش."
ماذا يعني هذا لمستقبل البحث في نشأة الحياة؟
كشفت النتائج أن هذه الميكروبات القديمة المحبة للحرارة قادرة على التنفس حتى عند مستويات أكسجين منخفضة للغاية، وهي ظروف يُعتقد أنها كانت سامة جدا للحياة الحديثة.
إذا كانت هذه الكائنات تستطيع القيام بذلك، فلماذا لا تكون الميكروبات التي سبقت حدث الأكسدة العظيم قد نجحت أيضا؟
قد يكون الأكسجين شحيحا في الأيام الأولى للأرض، لكن بعض الأيضات الهوائية البدائية ربما نجت بالكاد، مما مهد الطريق لظهور كائنات حية تكيفت لاحقا مع بيئة غنية بالأكسجين.
الأوكسجين لم يكن دائمًا متاحا بسهولة
في المرة القادمة التي تأخذ فيها نفسا عميقا، تذكر أن هذه القدرة لم تكن أمرًا سهلًا في بدايات الأرض. بل كانت نتيجة مليارات السنين من التكيف البيولوجي، الذي بدأ ربما في الينابيع الساخنة مثل تلك الموجودة في يلوستون.