أظهرت دراسة حديثة أن القشرة الدماغية تتنبأ بالمستقبل عبر اكتشاف المحفزات الجديدة وتشكيل ذاكرة قصيرة المدى تُعرف باسم "الصدى العصبي"، وأكد الباحثون في جامعة كولومبيا أن هذا الآلية، التي تم اختبارها عبر نمذجة الشبكات العصبية ، تلعب دورا محوريا في الإدراك والتعلم، وتفتح الباب لفهم أعمق للأمراض العصبية مثل الفصام (الشيزوفرينيا).
كيف تعمل القشرة الدماغية على التنبؤ بالمستقبل؟
القشرة الدماغية هي أكبر جزء في دماغ الثدييات، وهي المسؤولة عن العديد من الوظائف المعرفية مثل الإدراك، التفكير، تخزين الذاكرة، واتخاذ القرارات، وتشير الفرضيات العلمية إلى أن وظيفتها الأساسية هي التنبؤ بالأحداث المستقبلية عبر معالجة المعلومات الحسية الجديدة ومقارنتها بالتوقعات السابقة.
دراسة رائدة تدعم فرضية التنبؤ العصبي
نُشرت دراسة حديثة في مجلة Neuron العلمية، بقيادة الباحث يوري شيمكيف، زميل ما بعد الدكتوراه في مختبر رافائيل يوستي بجامعة كولومبيا، تقدم أدلة قوية على هذه الفرضية.
يقول شيمكيف:
"وجدنا أن القشرة الدماغية تعمل كآلة ذاكرة، حيث تقوم بترميز التجارب الجديدة والتنبؤ بالمستقبل القريب."
أما يوستي، فيضيف:
"هذه الدراسة تقدم رؤى عميقة حول دور القشرة الدماغية، وتساعد في فهم أمراض مثل الفصام، حيث يبدو أن القشرة لا تعمل بالشكل الصحيح."
كيف يستجيب الدماغ للمحفزات الجديدة؟
بدأ فريق البحث تجاربه على الفئران لتحديد كيفية استجابة القشرة السمعية، وهي جزء من القشرة الدماغية يعالج الأصوات، لمجموعة من المحفزات السمعية التي تتنوع بين الأصوات المألوفة والجديدة.
الصدى العصبي وذاكرة قصيرة المدى
أظهرت المسح الدماغي أن الخلايا العصبية لم تستجب فقط للصوت الذي تم تشغيله، ولكن أيضا لمدى كونه جديدا بالنسبة للفأر.
كل صوت جديد ترك بصمة عصبية تُعرف بـ "الصدى العصبي"، وهي سلسلة من الأنشطة الكهربائية العصبية التي تتبع المنبهات الحسية عبر الزمن، وتشكل نوعا من الذاكرة قصيرة المدى.
هذا الصدى ساعد الدماغ في تمييز المحفزات الجديدة عن المألوفة، مما جعل الاستجابات العصبية أقوى عند مواجهة معلومات غير متوقعة.
الصورة توضح كيفية ترميز الأصوات في القشرة الدماغية، حيث تستخدم الخلايا العصبية نشاطًا "صدى" لتعقب المحفزات السمعية وتحسين تنبؤات الدماغ بالمستقبل.
نمذجة الدماغ: كيف تُحاكي الشبكات العصبية آلية التنبؤ؟
لتعميق فهم هذه الآلية، قام الباحثون ببناء نموذج شبكي عصبي للقشرة السمعية، ودربوه على التعرف على المحفزات الجديدة.
أظهر النموذج سلوكا مشابها لما رُصد في الفئران، حيث استخدمت الشبكات العصبية "الصدى العصبي" لتخزين نموذج عن البيئة والكشف عن التغيرات.
أثبتت الدراسة أن طريقة ترابط الخلايا العصبية في القشرة الدماغية تجعل اكتشاف المعلومات الجديدة وظيفة تلقائية للشبكة العصبية وليس لخلايا منفردة.
قفزة نوعية في علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي
يقول يوستي:
"هذه خطوة كبيرة لفهم كيف ينجح الدماغ في اكتشاف المعلومات الجديدة."
وأشار إلى أن النموذج الذي طوره شيمكيف يعتمد على أفكار جون هوبفيلد، الحائز على جائزة نوبل عن أبحاثه في نمذجة الشبكات العصبية والذكاء الاصطناعي.
علاقة الدراسة بالفصام (الشيزوفرينيا) والأمراض العصبية
يعاني مرضى الفصام من صعوبة في التمييز بين المعلومات الجديدة والمألوفة، وهو ما دفع العلماء سابقا إلى دراسة استجابات الخلايا العصبية الفردية. لكن البحث الجديد كشف أن اكتشاف المعلومات الجديدة ليس وظيفة خلية عصبية واحدة، بل يعتمد على الشبكات العصبية بالكامل.
يقول يوستي:
"نحن متحمسون لأن هذه النتائج يمكن أن تعمق فهمنا لهذا الجزء الحاسم من الدماغ، وقد تساعد في تطوير علاجات لمشاكل التنبؤ العصبي في الأمراض العقلية."
مستقبل أبحاث القشرة الدماغية
مع استمرار التقدم في مجال علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي، يمكن لهذه الاكتشافات أن تؤثر في:
تحسين تقنيات التعلم الآلي من خلال تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر قدرة على التنبؤ.
فهم أعمق للأمراض العقلية مثل الفصام، مما قد يؤدي إلى علاجات أكثر دقة وفعالية.
تحسين القدرة على معالجة البيانات الحسية، وهو ما قد يفيد في تقنيات واجهات الدماغ والحاسوب (BCI).
هل يمكن أن نستخدم هذه المعرفة لتحسين الذكاء الاصطناعي؟
يبدو أن القشرة الدماغية تعمل كآلة للتعلم والتنبؤ، مما يجعلها نموذجا مثاليا لأنظمة الذكاء الاصطناعي المستقبلية. فهل نشهد قريبا ثورة في تقنيات الذكاء الاصطناعي مستوحاة من طريقة عمل الدماغ البشري؟