ثقافة وأدب

"قدموس" سعيد عقل: الأسطورة المُمَسرحة شِعراً

الحسام محيي الدين

9 نيسان 2019 20:22

1– قدموس الأسطورة : قدموس مسرحية شعرية كلاسيكية أسطورية كتبها سعيد عقل منذ العام 1937 وأصدرها عام 1944 . هي مأساة  تتألف من ثلاثة فصول  تتناول الصراع بين الواجب والحب . وقدموس هو إسم من كلمة م


1– قدموس الأسطورة :

قدموس مسرحية شعرية كلاسيكية أسطورية كتبها سعيد عقل منذ العام 1937 وأصدرها عام 1944 . هي مأساة  تتألف من ثلاثة فصول  تتناول الصراع بين الواجب والحب .

وقدموس هو إسم من كلمة من جذر سامي تعني القادم من الشرق أو الشرقي

تبدأ المسرحية بقيام الإله زوش او زيوس بإختطاف أوربّ إبنة أغنّار او أشنّار ملك صيدون الى بلاد الاغريق ، حيث تبعها أخوها قدموس ساعياً لتخليصها منه والثأر لشرفه وحفظاً لأمجاد بلاده صيدون . غير أن السبيل لذلك دونه مخاطر وأهوال إذ عليه أن يقاتل التنين الذي يحرس أوربّ في " البيوسى" ويتخلص منه ليسترد أخته . 

كانت إرادة أورب هي محاولة الانتصار لحبها في سبيل الفوز بحبيبها زوش كبير الآلهة والاحتفاظ به لنفسها دون أن تخسر قدموس .

أما قدموس فكانت إرادته استرداد أخته والانتصار لشرفه وواجبه تجاه بلاده صيدون من خلال القضاء على التنين ولكن أيضاً دون أن يخسر أخته أوربّ . 

هذا الصراع بين الارادتين شكّل هو أيضاً مواجهة كبيرة بين الذات والموضوع  تجسدت في ثنايا الحوار المسرحي فيها ، ورفدتها المواقف الجانبية للشخصيات التي لعبت دوراً في مسار الحدث المسرحي وهي : 

- مرى أو ميرا مربية قدموس وأوربّ التي دافعت عن كليهما في محاولة وفية للعودة مع ربيبها الى صيدون دون خسارة أحدهما

- الأعمى أو العراف الذي حاول بمكره وخبثه الايقاع بين الأخوين والانتصار للإله زوش بطرق احتيالية مختلفة .

تنتهي المأساة بإنتصار الواجب على الحب حيث يقتل قدموس التنين ويقتلع أضراسه ليبذرها في الارض كما أمرته الآلهة فتنبت رجالا" أصبحوا فيما بعد نبلاء ثيبا او طيبا أولى المدائن التي بناها قدموس في بلاد الاغريق .

2- البنية المسرحية : 

هي مسرحية من نوع المأساة أو التراجيديا ، التي تنتهي غالباً نهاية حزينة ، إعتمد فيها سعيد عقل الوحدات الثلاث التي تقوم عليها المسرحية الكلاسيكية وهي :  وحدة المكان / وحدة الزمان / وحدة الموضوع او الحبكة.

فالمكان هنا هو أرض البيوسى اوبلاد الاغريق ، وهو مكان واحد يساهم في تكريس وحدة الموضوع .

والزمان الذي هو دورة شمسية واحدة ما أمكن ذلك .

أما وحدة الموضوع او الحبكة فهي القصة المسرحية  التي أوردناها أعلاه والتي اعتمدت التسلسل المنطقي للاحداث ( بداية – وسط – نهاية ) حتى وصلت الى الحالة الحرجة او حالة التأزم القصوى في جوهر الصراع بين واجب قدموس في استرجاع أورب والثأر لشرف بلاده وحفظ أمجاد صيدون ، ورغبة أورب في الاحتفاظ بحبيبها والفوز به .والحق أن الموضوع هو الأكثر أهمية في هذه الوحدات وقد حرص المؤلف ألا تتعدد فيه الحبكات الجانبية فتضيع البنية المسرحية وتتشتت مما يفقد العمل المسرحي عنصرالتأزم الذي يشد المتلقي الى معرفة نهاية المأساة . يضاف الى هذه الوحدات الثلاث عناصر عدة ارتبطت بالتراجيديا منذ ولادتها أثبتها سعيد عقل في بناء المسرحية وفاءً منه للمخزون الثقافي الاسطوري الذي انبثقت منه المأساة في مهدها الاغريقي ، وحرصا" منه على خروج عمله الأدبي الى العموم تاماً مكتملاً . 

 فالشخصيات  ثابتة في المسرحية بمعنى أنها لا تتغير في مواقفها المصيرية ، كما أنها تجسد أبعاداً سوسيولوجية لأناس مثاليون( قدموس / أورب) في ذهن المتلقي بما يتطابق مع الغاية السامية التي خلقوا لها ، مما يساهم في اقناع الجمهور بدورها وتأثيرها في مجريات النص المسرحي .

كما أن سعيد عقل قد نجح في تحقيق الغاية الاخلاقية من هذه المسرحية وهي تكريس النفس من اجل الخير وتحقيق العدالة وقتال الشر أو إجتنابه ما أمكن ذلك ، فضلا" عن إتقانه الشكل الدرامي في قدموس من خلال اعتماد الكورس أو الجوقة التي هي لسان حال أبطال المسرحية سواءً كانوا أفراداً ( قدموس ) أو آلهة ( زوش ) وسواءً تحلّوا بصفات الخير او الشر . ففي حين  يتغنى البحّارة الصيادنة بإبحارهم خلف بطلهم قدموس في سبيل قتال الغرب الذي اعتدى عليهم  ، فإنَّ مقاتلي الاغريق يفخرون بقرب القتال ويتحدّون قدموس متوعِدينَهُ بقرْب أجَله ، الى أنْ تتناوبَ الجوقات في نعي أوربّ التي طواها الردى من جهة ، واحتفال الصيادنة بالانتصار وإن جاء على حساب مصرع أوربّ التي أمستْ في قبر من الرخام ، من جهة أخرى. 

لقد بنى سعيد عقل " قدموس" على فكرة المواءمة بين النص المسرحي والنص التمثيلي ، فكان على علم وتصور مسبق بضرورة كتابة مسرحيته لتكون نصاً تمثيلياً يحقق ما يصبو إليه من تأثير ووقع طيب يخدم قضيته القومية اللبنانية في المجتمع ، وليس فقط قطعةً أدبيةً تصلح لمتعة القراءة والتذوق الأدبي ، وهذه خاصية في صلب الأسس التي تقوم عليها التراجيديا التي ارتبطت بفكرة العرض المسرحي منذ العصور الاغريقية . 

أما الحوار فهو ضرورةً إما حوار بين ابطال المأساة او حوار ذاتي لجأ اليه سعيد عقل في أكثر من مشهد ، وهو في كلتا الحالتين يعتمد النبرة المتصاعدة والحدّة في الخطاب ليظهر تعاكس وجهات النظر بين الشخصيات  للوصول الى أفق فني واسع يخدم نجاح العمل المسرحي . وهو حوارآثر سعيد عقل أن يكون بلغة الشعرالكلاسيكي متأثراً بذلك بالتراجيديا اليونانية التي ارتبطت بالشعر منذ نشأتها .

أخيراً وفي هذا الجزء من البحث نجح سعيد عقل في تقديم بنية مسرحية تعتمد خصائص التراجيديا اليونانية الكاملة في تصوير الفعل الانساني على أكمل وجه ، وبمجهود شعري جادّ أراد به إطلاق ونشر رسالة لبنان ومجده ، وإثبات الهوية القومية اللبنانية  كفكرة أو كمشروع قائم  بحد ذاته يستوفي العناصر التاريخية والثقافية والاجتماعية ، وهو ما اعتبره البعض آنذاك عام 1944 إعلان مواجهة لامتداد القومية العربية.

3- اللغة الشعرية :

ترتبط اللغة الشعرية بثقافة الشاعر ، فهي في "قدموس" ترجمة لاطلاعه الواسع على مندرجات اللغة والفن والدين والفلسفة ، لا بل تأثره الكبير بها .  هذا التأثر الذي بدا في الحقول الدلالية التي تأتّت من العلاقة الطبيعية مع  منظومة المفردات والتراكيب اللغوية المترابطة ، وهي علاقة تعتمد الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية في نقل مضمون العمل الفني الى المتلقي عبر المكونات البلاغية المعروفة في البيان والبديع والمعاني ، فضلاً عن الرمز الذي أقام في المسرحية علاقة تبادلية بين الكلمة وما توحي إليه .

فأول ما يطالعنا في " قدموس" لغة الرمز التي عرف بها سعيد عقل ، حتى لقد عُدّ أباً للرمز في الشرق العربي في حينه ، وهو ما تجلت ملامحه الواضحة في أوجه عديدة أولها إختيار الشخصيات الاسطورية التي يرمز كل منها إلى فكرة سامية ، فأوربّ رمز الجمال والحب ، وقدموس هو رمز العنفوان والبطولة وكلاهما أعطى الغرب هذه المعاني كرسالة أخلاقية ،

أما مرى أو ميرا فهي رمز الحنان والعطف على ربيبيها والوفاء لهما وللبنان ، أما الاعمى او العراف فهو رمز للخبث والمكر واثارة الفتنة ، وزيوس هو المعتدي الذي جاء من الغرب ليضرب صيغة الأمان والمحبة في صيدون ، ويبقى التنين الذي هو رمز للشر والدمار . ولو تبحّرنا بين الكلمات والتراكيب في المسرحية لاكتشفنا مدى ودقة الكثافة الرمزية والايحائية فيها.

يقول سعيد عقل : .... يا خطىً سُدًى حثّها اليأس    فأبقت في صفحة الرمل وسما 

                    زبد البحر واقف منه بالمرصاد     والدهـــر منجـــل ليس يعمـــى 

                    قدرٌ فوقنا ....... 

هنا يبدع عقل فيرمز الى الضعف الذي يعتور أوربّ : خطى سدى ..  اليأس ... الوسم أو الاثر البسيط على الرمال ... قدر فوقنا... كلها ترمز الى أرضية هشّة لا تكاد تحتمل الخطوات البائسة والمتهالكة لأورب السليبة الارادة ، والتي يستعد الدهر لتنفيذ مشيئة وقدر الآلهة في مصيرها . إلى جانب الكلمات المفردة في السياقات المختلفة في المسرحية والتي تحمل كل منها دلالةً خاصة في الحب والعنفوان والقوة والفكر والحزن وغيرها : " مزجّج " التي ترمز للحسن ،" أغدو خنجر" التي ترمز للغدر،"صرع الوحش جبنا" " التي ترمز للهزء من بطولة قدموس . 

الى جانب ذلك تمكن سعيد عقل من ادراج كافة مكونات وفنيات الصورة الشعرية التي تخدم العمل من  بيان : تشبيه  / استعارة / مجاز / كناية ، و بديع : طباق / جناس / تورية / غلو / الخ... ومعاني : الخبر والانشاء/ التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية / الايجاز الخ... الى الصرف والنحو في مختلف مناحي البنية الشعرية في " قدموس " ، إضافةً الى قدرته على نحت واشتقاق وتليين المفردات في أنساق رشيقة قدمت لنا حللاً شعرية تجديدية للّغة الأم عجز عن استحضار غناها سابقوه ولاحقوه من الشعراء الى حد كبير .

يقول : " ... اليد الأهلّت ... نحن الكاتبو ... ألسّخت ..." إدخال أل التعريف على الفعل ، ويقول: نزرع المُدْن ... جُزْركم ... جُزْرنا...  محركا" أحرف الدال والزاي بالسكون، وهو جمع صحيح لغوياً لم يتلقفه أحد غيره من معين العربية الا ما ندر. وفي التشبيه : جوف كالقبر .. ضحكة مرنّة كالسهم...كرعد في الفرائض الخ ... والاستعارة : نجمة تمر ببال ... مشى في غمامتين... تقديم النعت على المنعوت : ضاحكا" وجهها ... مرةّ لفتتي ... والمجاز : ادفعي الموت عني...  كان دنيا... طواه الردى... والكناية : بين ريف وجفن .. فؤادي يقطر شرفا" عندما يسلّ..والطباق: نور – دجى / بالهدم بان / ماتت فما تحيا/ ... والجناس : ساحقا" ماحقا" ... حامي حماك ... وعدها والوعيد... والجمل الاعتراضية الكثيرة . كذلك كلمات : بسّل ... أمنيّتيك... أيّهذي...وهي مفردات صحيحة جاء الكاتب ليمنحها خصوبة الحياة وحيوية الاهتمام في تحولاتها الصرفية بين المفرد والتثنية والجمع. 

لقد استطاع سعيد عقل تقديم لغته الشعرية من خلال مفردات معجمية خاصة به تقوم على ابراز الحقل الدلالي لكل منها ( المرأة- الوطن- الحب- البطولة-...) الذي خدم المستوى النفسي في المسرحية فيما يتعلق بالقدرة على التأثير في المتلقي او القارىء ، من خلال الصور الشعرية المتأتية عن علوم البلاغة . 

4-البناء الايقاعي: 

اعتمد الكاتب الوزن العروضي الكلاسيكي على البحر الخفيف الذي يعدّ من أجمل وأسلس بحور الشعر العربي وقد قيل سابقاً أنه سمّي بذلك لخفته في الذوق . وهذا البحر هنا ولّد الايقاع الخارجي او ما يعرف بالموسيقى الخارجية  ، على الرغم استخدام بحر الرمل في أناشيد الجوقات وهو الامر الذي لم يضرب البنية الايقاعية للشعرالمسرحي بل رفدها بحيوية وتنوع مدهشين . فأناشيد الجوقات العشرة جاءت متطابقة بنفس الوزن العروضي أي مجزوء الرمل،  والوزن والقافية يقدمان لنا هنا الموسيقى الخارجية ، أما الموسيقى الداخلية فتنجلي بوضوح في اختيار الشاعر للكلمات المتسقة مع المعاني متوخياً التأثير النفسي في الجمهور بحيث لا يجد هذا الاخير حرجاً أو صعوبةً في فهم الحبكة المسرحية، مما يشكل وحدةً جوهريةً بين المتلقي وافكار الكاتب ، وحدةً تكونت نتيجة هذا الخلق الايقاعي الداخلي الذي راعى فيه سعيد عقل الذوق العام  من خلال الشكل العامودي للقصيدة المسرحية . أي باختصار تحقيق الوحدة بين الايقاع والكلمة في ذات الجمهور فلا مجال لفصل أحدهما عن الآخر نهائيا" . 

5-عناصر الحداثة: 

مزج سعيد عقل بين الاسطورة والتراث الوطني اللبناني في لوحة نادرة من العنفوان والانتماء الى الوطن ولا شيء غير الوطن، فهو وان كان نرجسياً في جوانب من مسرحيته ، عبّر بصدق عن ضرورة التعلق بالأرض والدفاع عن النفس من خلال الوطن حفاظً على الوجود وتثبيت هويته الانسانية والثقافية وهي صفة لطالما شكلت هاجساً وجودياً للشعراء والمبدعين الحداثوين في تلك الفترة وما بعدها .

ولعلّ من أبرز مظاهرالحداثة في " قدموس"  رؤيته البانورامية الكونية الشاملة للعالم من حوله، فهي يقدم لنا انموذجاً للانفتاح على حضارات العالم من خلال التراث الاغريقي الذي دونت فيه اسطورة قدموس و الذي هو تراث عالمي يعرفه القاصي والداني .

كذلك فإن موت أوربّ في نهاية المأساة والذي هو بداية إنتصار أخيها قدموس ما هو الا تعبير عن رمزية الموت والانبعاث التي شكلت محوراً هاماً من محاور الشعر الحديث.

أما حيرة أورب بين حبها لأخيها وحبها لزوجها فهي سمة التشظي التي طبعت الانتاج الابداعي لشعراء الحداثة وهو ما تجلى ايضاً في قدموس سعيد عقل . 

كما يبدو أثر الحداثة في القدرة على تقديم الكم الهائل من البديع والبيان والمعاني والصرف والنحو في المسرحية  دون عجز أمام قيود واحكام البحر العروضي الكلاسيكي ، ضارباً بذلك مثالاً يحتذى في إثبات أنه لا يكفي التنكر للشكل القديم للقصيدة لكي نلبس العمل الفني ثوب الحداثة. 

ويبقى الرمز الذي هو من مقومات الصورة في الشعر الحديث وما مسرحية " قدموس" سوى مثال زاخر بالصور الرمزية  التي تميز بها شعراء الحداثة كوسيلة مهمة في التعبير الشعري ، وهي وسيلة تعكس في هذا العمل شخصية سعيد عقل الواسع الثقافة في الدين والفن والفلسفة واللغة .

6- خاتمة:

مسرحية "قدموس" هي عمل فني كلاسيكي ينتمي لفئة المأساة التي وضع أسسها شعراء الاغريق  منذ القرن الخامس قبل الميلاد ، تكاملت عناصرها المسرحية والشعرية في الشكل والمضمون الذي يتناول جوهر الصراع بين الحب والواجب المتمثّل في قدموس وأخته أورب بحيث تنتهي هذه المأساة بانتصار قدموس على المعتدي ناشراً المعرفة في بلاد الغرب ، ومصرع أوربّ التي نشرت الحسن والحب فيها. تميز سعيد عقل في عمله هذا بميزات كثيرة في بناء عناصر المسرحية  الى إبداع نص شعري واضح وقوي يتصف بالثراء في تراكيبه اللغوية وصوره الشعرية التي استمدها من ثقافته البلاغية في البديع والبيان والمعاني، فضلاً عن الايقاع الخارجي والداخلي في أنساق الجمل الشعرية ، التي سكبها المؤلف في قالب عروضي سلس على البحر الخفيف ، جامعاً بذلك بين أصالته الشعرية وفكره الحداثوي .