ثقافة وأدب

سعيد عقل : "المجدلية" الملحمة

الحسام محيي الدين

11 نيسان 2019 17:37

توصيف :  " المجدلية " هي ملحمة شعرية نظمها سعيد عقل في قصيدة طويلة جداً مستمدة من الكتاب المقدس العهد الجديد كتبها عام 1937 تتناول قصة إمرأة زانية عاشت زمن السيد المسيح وكانت أختاً لأليعازر الذي أح

توصيف : 

" المجدلية " هي ملحمة شعرية نظمها سعيد عقل في قصيدة طويلة جداً مستمدة من الكتاب المقدس العهد الجديد كتبها عام 1937 تتناول قصة إمرأة زانية عاشت زمن السيد المسيح وكانت أختاً لأليعازر الذي أحياه المسيح وأخت مرتا القديسة . أخرج منها السيد المسيح سبعة شياطين فتابتْ وأصبحت تابعةً له ورسولة ، وهي التي سكبتْ عند قدميه قارورة الطّيب وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ، وهي التي وقفت مع مريم العذراءعند الصليب وشاركت في دفن المسيح. وهي أول من شاهد القبر فارغاً وهرعت تخبر بطرس ويوحنا بذلك ، وهي كذلك اول من رأى المسيح بعد قيامته من الموت كما جاء في العهد الجديد . 

أهم ما يميز هذه المرأة أنها تابت وغفر لها حتى لقد طوبتها الكنيسة قديسةً وتحتفل بعيدها في الثاني والعشرين من تموز ، فغدتْ شفيعة المومسات والعطارين ومزيّنِي الشعر وغيرهم وحِيكتْ حولها الحكايا ورسمت ونحتت لها اللوحات والتماثيل .

وسَمَ سعيد عقل هذه الملحمة بطابع تاريخي يعبّر عن ثقافته الواسعة في استحضار القصة التاريخية وتجديدها ، وعن شخصيته اللبنانية الفينيقية ، ذلك ان جميع ابطاله هم فينيقيون يتبعون الامبراطورية الفينيقية ويعيشون في رحابها، حرص في اعماله على تقديمهم لنا كأبطال مثاليين اقتنع هو بهم وببطولاتهم وهذا ربما  يفسر لنا مسارعته الى اصدار أعماله المسرحية والملحمية ذات الطابع التاريخي البطولي للشخصية الفينيقية قبل أعماله الشعرية الاخرى في الغزل وغيره . لكن هذا الايثار للعنصر الفينيقي لم يمنعه من التنبه وادراك القيمة الادبية الكبيرة لاعماله هذه  وان اللغة العربية هي التي أكرمته وجعلته شاعراً عظيماً، رغم كل ما هدد به من التخلي عنها باستبدال الحرف العربي باللاتيني  واعتماد اللغة المحكية اللبنانية بدل الفصحى وغيرها من الامور او العناوين التي طرحها خلال مسيرته الشعرية الطويلة . 

2- المجدلية وسعيد عقل : 

لم ير سعيد عقل في المجدلية ما رآه الناس فيها من دعارة وفساد في المجتمع ، وانما كائناً سامياً أخطــأ ثم تــاب  " فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابّون" . ومن ثم فهي تساوت لديه مع يسوع روعةً وجمالاً وروحاً صافية تصبو الى التلاقي مع يسوع  " فتى الطهر " في المحبة والقداسة لتنال بركته  بعدما تسربلت بنعمة التوبة :

                          تسأل الحب إنْ غراماً وإن قدســـــاً     وكفّــــان مُدّتَـــــا لنـــــــــــوال

إنها تحب يسوع حباً إلهياً ، ولذلك فقد رفض يسوع فكرة الرجم لهذه المرأة ، محاولاً خلق مجدليته الخاصة به في مناح كثيرة  ، فلقد خلقت المجدلية بالنسبة لسعيد عقل للحب والفرح ، قاصداً في ذلك توأمة هاتين الصفتين مع التعاليم المقدسة في الديانة المسيحية،  : فهما فكرتان مسيحيتان استطاع عقل ترسيخ المفهوم الانساني لهما في ملحمته، فضلاً عن تبيان سماته الشخصية كشاعر فَرِح . 

نجح سعيد عقل في تصوير الفعل الانساني على أكمل وجه في حبك  مجدليته الأخّاذ ،الذي جعله فيلسوفاً في جانب من شخصيته ، فضلاً عن شاعريته الفذّة في الجانب الآخر ، مطوّعاً بذلك ملكَته الادبية في خلق الفكرة المجددة الناصعة البياض والمكتملة  الصفاء لمريم المجدلية محاكاة"ً لأصلها الديني الأول .علاوةً على ذلك فإن العلاقة التسامحية التي أنتجتها القصيدة بين الرب والعبد لهِي فكرةٌ مريحة للقارىء الذي يخاف ويجهل مصير ما بعد الحياة الدنيا ، او على الاقل تغمره بالسكينة والاطمئنان الى حد ما في غمرة الاحداث والاهوال التي يتخبط بها العالم من حوله .  

3- بِنية القصيدة :

هي اذن قصيدة من نوع الملحمة  ، تنتهي نهاية مفرحة ، إعتمد فيها سعيد عقل صفات الملحمة الشعرية التي تصور الاعمال البطولية للافراد ، وهي هنا تروي لنا قصة شخصية  تاريخية عظيمة مرتبطة بالتاريخ الديني وهذا شيء طبيعي ذلك ان علاقة الملحمة بالتاريخ هو جوهر نجاحها .  

اعتمد فيها التسلسل المنطقي للاحداث وفق رؤيته هو كشاعر متمكن ، بلغة الشعر الكلاسيكي العامودي على البحر الخفيف ، الذي ولد الايقاع الخارجي للقصيدة في غنائية مفرطة الى حد ما، دون أن يقف الالتزام بقواعد العروض الصارمة عائقاً أمام انسيابية  تلك المشاهد والمواقف ، مع الوفاء الى حد كبير للنص الديني الاصلي فيما يتعلق بحياة المجدلية ، وايصال الفكرة الاخلاقية من هذه الملحمة وهي التوبة التي أنعم الله بها على المجدلية فكوفئت بالفرح والقداسة ، بما يحمل ذلك من دفع للعقل الانساني الى ضرورة اعتماد نمطية التسامح والمحبة وفكرة الالتقاء والود بين بني البشر . وليس خفياً أن سعيد عقل يمجد المرأة في اعماله وهذا ما ظهر في المجدلية التي لم يصفها بالزانية ابداً في قصيدته الطويلة من اولها الى آخر بيت فيها، حتى أنه لم يتغزل بها بإباحية ابداً فهو الشاعر العفيف في غزله والسامي دون اسفاف ولا ابتذال .

على أننا لا نستطيع نفي صفة الصناعة وفكرتها البادية في القصيدة  فسعيد عقل اتخذ الشعر وظيفةً وغاية وليس فقط مادةً للقراءة الممتعة ، وهذا ليس عيباً ولا انتقاصاً من قدرته العفوية الكبيرة والمتمكنة في نظم ملحمته الشعرية التي تعكس الخيال الخصب والالهام المتوهج للشاعر الزحلاوي والتي تأخذنا أثناء  قراءتها من قاع السكون الى ذروة الصخب ، من حزن الى فرح ، من ذبول الى تفجر ، من انكسار البشر الى صفاء الالوهية ، وباختصار من الحلم الجميل الابيض الطموح ( مريم ) الى " أفق الفكر" والحقيقـــة ( يسوع ) : 

          هامـــــت الآن مريـــــم ويســــــوع          فــــــي ظـــــــلال الافنـــــــان والأوراد

          يشربـــــان المســـــاء مـــــن جعــــدة الاردنّ    مـــــن هبّـــــة النســــيم النــــــــادي  

 وتبقى الموسيقى الداخلية التي تعتمد اختيار الشاعر للكلمات المتسقة مع المعاني متوخياً التأثير النفسي في الجمهور مما يشكل وحدة جوهرية بين المتلقي وافكار الكاتب ، وحدة تكونت نتيجة هذا الخلق الايقاعي الداخلي الذي راعى فيه سعيد عقل الذوق العام  ولو من خلال الشكل العامودي للقصيدة  . أي باختصار تحقيق الوحدة بين الايقاع والكلمة في ذات الجمهور فلا مجال لفصل أحدهما عن الآخر نهائياً .


4- اللغة الشعرية والصورة :

ترتبط اللغة الشعرية بثقافة سعيد عقل وهوية الابداع الشعري لديه ، وهي اللغة التي تحرى فيها انتقاء الالفاظ حتى تتميز في عميق مدلولاتها أو حقولها الدلالية : القداسة - اللذة – الحب – المرأة – الخ ...وتنظيم سياق هذه الالفاظ في جمل شعرية اتسع مجالها التأثيري في الجمهور . فلا شك أن لغته مرتبطة بكافة العوامل الذاتية  والموضوعية التي بنت تجربته الشعرية ، فلم يسقط نرجسيته المعروفة على العمل فقط ، بل احترم الذوق الادبي العام في انتاج ملحمة أدبية تنسجم مع الجانب الموضوعي لها . إنه الشاعر الحر في تعامله مع الالفاظ والتراكيب التي تخدم المجاز والرمز والاستعارة - وغيرها من عناصر البلاغة- في بلورة صورة شعرية صافية بحيث تبدو كحديقة غناء  بشتى صنوف الازهار والورود الملونة، تستدرجنا للتنزه فيما بينها ، والنهل من سحر بلاغتها الخلاقة : فهو يوظف الكلمة توظيفاً لتحقيق مرادها الأهم الا وهو توسيع دلالاتها وايحاءاتها ، فكلما تعددت وظيفة الالفاظ تنوعت الحقول الدلالية واتسعت لديه ، ورغب القارىء فيها باطمئنان وسكون . فقصيدته ليست جبلاً يصعب تسلقه ، انما هي درب يسير يمكن الركون اليه كوسيلة في ادراك السهل الممتنع حيناً ، والمنحوت الصاخب حيناً آخر ، وفي كلتا الحالتين فإنها لغته الخاصة التي تعرف للقاصي والداني بمجرد قراءتها ، والتي تنسجم مع المزاج الخاص للجمهور المتلقي .

فالرمز الذي عرف سعيد عقل بأبوته له على مساحة المشرق العربي  ، يكاد يترك ملامحه الواضحة في كافة الابيات الشعرية في القصيدة ، فأينما تصفحت تجد الرمز الموحي الى مبدأ او فكرة او نظرة او تأمل ما :

                     وتهادتْ اليهِ ، فالأرضُ في الرعشةِ تلقى الجمالَ قربَ الألوهةْ   

فالمجدلية ويسوع صنوان ، تهتز الارض لمجدهما اذا ما التقيا ، ومحاولة المساواة بينهماهي الرمز الاول هنا كذلك قوله :                     عند شاطي الاردُنِّ بين الخميلاتِ تلاقى يسوعُ والمجدلية 

الذي فيه رمز التقاء الطهارة بين المرأة التائبة والقداسة . هذا فضلا" عن شخصيتي الملحمة اللتان ترمزان بحد ذاتهما الى غير معنى من المعاني المتنقلة بين ثنايا القصيدة  كالخير والجمال والطهر  والمحبة . ولو تجاوزنا عن الرمز الى البلاغة الظاهرة في تراكيب الابيات الشعرية لعثرنا على كم هائل من الاستعارات والتشابيه والكنايات والطباق والجناس وغيرها من ألوان البيان والبديع التي برع فيها سعيد عقل ايضاً: فتى الطهر - لذة الوصل في سرير الحياة ( كناية ) يهدم الحب جفنيها- يشربان المساء – زهرة اللذائذ –  ( استعارة) تتكي رحمة العلى – يا ربيب الخيال – يا أفق الفكر- باسط الجفن ( مجاز ) مخضّب ببياض – يطهر الطرف ... عهر – هدمــت وابتنـت  ( طباق ) نديان جسم مخضوضر – نشيداً... أشعاراً - ( جناس) الى جانب ظاهرة التكرار الذي هو من علامات الجمال البارزة في الصورة الشعرية ، فصفة البياض تكررت تسع مرات في القصيدة بشكل متبادل بين مريم ويسوع في مواقف مختلفة : فهي المرأة البيضاء ، والفكرة البيضاء ، وذات الجبهة البيضاء ، وهو فتى الطهر الابيض ... الخ... كذلك كلمة النور ومندرجاتها التي تزاحمت هنا وهناك في القصيدة: صحو أضاء ... بهي السنى ...استلان الضياء...رأت النور...تلألأ ثغر... اتكاء السنى... وغيرها من الالفاظ المتكررة التي تضفي حيوية عامة على الصورة الشعرية ونوعا" من الموسيقى اللفظية . وباختصار فإن  المستوى السمعي/  البصري يتساوى مع المستوى التخيلي لدى سعيد عقل ، فأنت اثناء قراءة هذه القصيدة في صورها المتعددة الدلالات من اللذة الى الحب فالفرح فالقداسة تستطيع ان ترسم صورة خاصة ما لجسد مريم المجدلية من خلال الخيال المترسب في ذهنك عن المرأة بشكل عام . تماماً كما أنه من جهة اخرى يسهل لنا تصور مشاعر مريم المختلفة التي عاشتها خلال مرورها بتلك المراحل المتعددة ، وهي مشاعر بالكاد تمسحها لمسة حزينة لا تكاد تذكر في سياق الابيات الشعرية المتلاحقة تتفق مع ميزات شخصية الكاتب كشاعر خلق للفرح.


5- أثر الحداثة في مجدلية سعيد عقل :

يستحضر سعيد عقل دائماً الامثولة التاريخية من ينابيعها الحقيقية ليلبسها ثوب التجديد في قالب شعري مميز عجز عنه سابقوه ولاحقوه ممن تقلدوا يراع الكلمة. ولا يهاب اقتحام أبواب اللغة ألفاظاً ودلالات ليسكبها لنا في آثار أدبية شعرية تتسم بطابع الخلود على مر الازمنة. وهو في ابداعه ذلك يقدم لنا مساحات واسعة من الارتباط والتأثر ايضاً بالقضايا والافكار الحداثوية التي شغلته في زمنه كإنسان يرى العالم من حوله ملعباً كبيراً لا يكاد يتسع لابداعاته الشعرية ، فهو شاعر المجد المسكون برؤية كونية شاملة تحاول تثبيت مفاهيم جديدة تقوم على اقامة التكامل بين الانسان وخالقه اي بين العبد الصالح التائب الذي يطمع في غفران الخالق ورحمته ، وبالتالي معرفة وتحديد مصيره الوجودي أي فكرة الخلاص وهي اشكالية لطالما شغلت الشعراء في العصر الحديث .

والى ذلك فإن سمات الحداثة الشعرية تظهر في صورة المجدلية المطابقة لصورة البغايا اللواتي كتب فيهن شعراء الحداثة بعطف ورحمة كونهن وقعن ضحية الفقر والبؤس والاستغلال  .

أيضا" فالأخذ من التراث واستحضاره والذي تجلى  مع النص الديني لقصة مريم المجدلية في علاقتها بالسيد المسيح شكل مادةً اساسية اولية في نتاجه هذا ، وهذا أمر لا يكاد يخلو منه نص أدبي حديث.

وتزخر القصيدة بالرمز الذي شكل وسيلةً مهمةً جداً في التعبير الشعري والايحاءات التي تخدم الغرض من القصيدة ، والذي يعكس الثقافة الواسعة لهذا الشاعر في الدين والفن والفلسفة واللغة .

أحد معالم الحداثة ايضاً هو الوظيفة الاخلاقية لأبطال ملحمته كأشخاص مثاليين في المجتمع.

لإضافةً الى نزعته الصوفية في بعض ثنايا الابيات الشعرية وهي من علامات الفكرة الحداثوية في الشعر. 

ويبقى أن انتقال مريم المجدلية من امرأة زانية الى امرأة قديسة هو رمز الخروج من العدم الى الحياة وهو ايضاً بتعبير آخر رمز للانبعاث وتجدد الحياة .