متفرقات

الوجه الآخر للشّبكة

طارق ثابت

2 تموز 2019 23:49

تقول "تانيا" الأستاذة المساعدة في جامعة مدينة دبلن، والتي تدرس حرية الإنترنت وشؤون الحكم في روسيا : «عندما تُبقي الناس حذرين ومتحفزين، لا يعرفون ما يمكن أن يتوقعوه منك، تكون السيطرة عليهم في غاية السه

تقول "تانيا" الأستاذة المساعدة في جامعة مدينة دبلن، والتي تدرس حرية الإنترنت وشؤون الحكم في روسيا : «عندما تُبقي الناس حذرين ومتحفزين، لا يعرفون ما يمكن أن يتوقعوه منك، تكون السيطرة عليهم في غاية السهولة».
وهو كلام خطير جدا،ومهم جدا في آن،ان اعتبرنا الأنترنت ليست مجرّد محتوى و فقط،بل هي أعمق من ذلك و أعظم،إن علمنا أيضا أن الحكومات تستخدمها للولوج،ليس فقط إلى خبايا و سرائر أعدائها من حكومات دولٍ أخرى،بل إلى خبايا أفراد مجتمعاتها،محاولة بذلك حماية انظمتها مِن الذين تعتقد بأنهم،يسعون لإفساده أو إسقاطه .

إنّ مسألة كبح الحريات لم تعد كالسّابق،تستند إلى التضييق الكلاسيكي المعهود،بل تجاوز ذلك إلى مراحل متطوّرة للغاية،خاصة مع ظهور الأنترنت،التي أتاحت فرصا لا تعدّ ولا تُحصى للظّفر بمساحة غير محدودة،من وجهات النظر قصد الإدلاء بالآراء وتقديم وجهات النّظر حول القضايا و المسائل المختلفة،التي تتستّر عليها الحكومات بحدّ ذاتها،ولا تُطلِع أفراد مجتمعها عليها،وهو الذي له حق امتلاك المعلومة،ومن ثم الردّ عليها،استهجانا أو استحسانا،و بالعودة إلى علاقة الأنترنت ونشر المعلومات و البيانات عبرها،بأجهزة الأمن المختلفة،يتّضح لنا جليّا الأهميّة القصوى،التي توليها الدول إلى هذا المجال،بل و يحيلنا إلى حقيقة أكبر مفادها،أن الأنترنت بنية تحتيّة لا يستهان بها،و مسألة السيطرة عليها،من أولى أولويات السُّلطات،وتضيف "تانيا" معلقةً على ذلك الأمر: «لقد بدأوا للتو يدركون ماهية الإنترنت وكيفية عمله؛ أنَّه ليس مجرد محتوى معروض ومعلومات تُبث، لكنَّه بنية تحتية كذلك».

#ماذا_تريد_الشعوب_من_حكوماتها ؟  
لا أحد يمكنه التكهّن بما تريده الحكومات من شعوبها،نظرا إلى تعاقب الحكومات و توالي الحاكمين،إلاّ أنه وعلى الطّرف النّقيض،نجد أنه بالإمكان التكهّن بما تريده الشعوب من حكوماتها،وهو نفس الأمر الذي يريدونه من وسائل الاعلام،أن تتّسم الحكومات بالشفافية و الصّدق،ليتسنى للشعوب معرفة ما يجري،و استشراف ما سيجري،بعد مدة زمنية قصيرة أو طويلة الأمد،وقد وجد الملايين من البشر ضالتهم في شبكة الأنترنت التي باتت ملاذا بهم،بالرّغم وكما أسلفنا آنفا،أنها لم تعد آمنة بعد أن وقعت بين أيدي الحكومة،وإن كانت الشبكة آمنة فمستخدموها ليسوا كذلك،ويكفي أن يُلقى عليك القبض لسبب من الأسباب،وأبسطها تدوينة أو تغريدة .

#الشبكة_العنكبوتيّة_وجه_آخر_للحريّة : 
قد لا تتّسع هذه الأسطر المعدودة للحديث عن الحريّة كمفهوم طويل عريض،ولا عن الشبكة العنكبوتيّة الذي لا يخفى عن السّواد الأعظم منّا،وإن ما سنأتي به لن يُحدث البوْن الشّاسع في حقيقة المفهومين،اللّذيْنِ تطرق إليهما مختصّون و أسهبوا في الحديث عنهما بالتّفصيل،إلاّ أن ما أردنا إيضاحه سنلخّصه فيما سيأتي: الحديث عن الحرية عبر الشبكة،لا تنحصر فقط في تلك المتعلّقة بالسياسة و تأليب المحكوم ضدّ الحاكم،أو لنقل الرعيّة ضدّ راعيها،بل سنجد أن الحديث عن الحرية في ظلّ توفر البيئة الرقميّة،وصل إلى حدود أخرى،تُطرحُ فيها ايديولوجيات مختلفة في مجالات لا عدّ لها ولا حصر،أحيانا كثيرة نجهل مصادرها،أو المسؤول عنها من الأفراد أو المؤسسات و المنظمات،محاوِلة بذلك إحداث ما نسميه ب"الشّرخِ " في نسيج العلاقات الانسانيّة،فكم هم الذين انساقوا إلى عوالم تخالف تنشئتهم الأولى،فتعصّبوا و تطرّفوا،أو تحرّروا ذلك التحرّر الرّامي إلى الانسلاخ الكلّي و التبرّء التّام من قناعاتهم الأولى،و التحاقهم بأخرى تضمن لهم تجسيد ما لم يكونوا قاديرين على تجسيده وهم تحت لواء ما تشرّبوه،ليجدوا أنفسهم تحت سطوة مفهوم آخر للحرية،جلبته لهم الشبكة العنكبوتية،التي نجحت في استحداث نسيج،اجتماعي،اقتصادي، سياسي و عقائدي،يتيح للجميع تحديد أولوياته بعيدا عن السلطة التقليدية،بالرّغم من أن الأنترنت كفضاء مفتوح،يفرض سلطة ثانية،بمعايير تظهر لنا أنها غير موجودة،لكن الحقيقة تثبت و تؤكّد وجودها .

#ما_مصير_العالم_لو_زالت_الشبكة ؟ 
كثيرا ما يساورني شعور بالإرتياح،و أنا أطرح على نفسي هذا التساؤل،الذي يعقُبُه تساؤل آخر مفاده،ما مصير الحريّة بعد زوال الأنترنت؟ وهل ستزول الأنترنت حقا ؟ أسئلة قد يعتبرها الكثير مظلّة للقفز بنا،ليس من الحسن للأحسن،بل من الحسن للسيّء،أو من السيّء للأسوء،وذلك أن إشكالية زوال الأنترنت،تعني زوال الكثير من الإيجابيات،لكن ماذا لو سألنا أنفسنا كيف كان العالم قبلها؟ أعتقد أن مصير العالم غير مرتبط بمصير الأنترنت،بالرغم من أنها جعلت منه قرية صغيرة،وبإمكانها أن تجعل منه غرفة عوض قرية،وهذا ما أعتبره كبحا خقيقيا للحريات،سيسألني البعض كيف ذلك؟ أجيب بما تيسّر لي من علم،لنفترض أنّني أسكن في مدينة شاسعة الأطراف و الأرجاء،حدودها لا تكاد تُرى،حتّى أنّك لو أردت السير في شوارعها،ما استطعت الخروج من الشارع الواحد إلا بعد ساعات طوال،وقد لا تخرج منه لحجمه الكبير و شساعته،وهي الحريّة التي يبحث عليها الجميع،حتى أنك لا تذكر الأشخاص و الأسماء و المواقف التي مررت بجانبها.
ولنفترض أيضا أنك انتقلت للعيش في قرية صغيرة،تُحسب مداخلها و مخارجها و مبانيها و قاطنتها في لمح البصر،ختى أنك تكاد ترسم تفاصيلها الصغيرة لأنها انطبعت في مخيلتك،وانغلقت عليها و استحكمت في اغلاقها،ولا تكاد تبوح بالقول إلا وتجده قد سرى سريان الماء بين الجداول،الم تُسلب حريّتك و تنتهك حتى خصوصيتك؟كذلك هي نظرتي للأنترنت،ضيّقت واسعا،واستحكمت القوى الكبرى على من لا قوة لها ولا طاقة ولا سبيل، وما الثورات الحاصلة في المجتمعات إلا لكونها لم تحقق تلك الحرية التي تدّعيها الأنترنت،مادام الاقتصاد محاصر،والتّعليم محاصر،و عدد الجيوش معدود،و الدّين مسبوب،وما في العادات و التقاليد و الإرث مردود،فالانترنت ضربة قاضية للحريات،وسلب صارخ لها،وما سميت شبكة،إلا ليسهل اصطياد الضعفاء اقتصاديا و سياسيا و دينيا و عقائديا و علميا ...الخ ولكم أن تنظروا في خلق الله،والعنكبوت خير دليل،تنسج خيوطها لتصطاد و تكبل حرية فريستها،لا لكي تمنحها المزيد من الحريّة،وكذلك بمصير العالم يفعلون .
______________________
[email protected]