ثقافة وأدب

«هنيئةٌ الرقبة التي تحمل رأس البلاد».. شعراء عراقيون صعدت بهم قصائدهم إلى المشنقة

9 آذار 2019 22:35

كان العراق في أوج انفتاحه على العالم الحديث في سبعينيات القرن الماضي، أدبًا وفنًا وسياسة، لكن هذا لم يدم طويلًا، فحين استحوذ حزب البعث على السلطة بدأ يُضيِّق دائرة الانفتاح حتى أغلقها تمامًا؛ تمثَّل ذ

كان العراق في أوج انفتاحه على العالم الحديث في سبعينيات القرن الماضي، أدبًا وفنًا وسياسة، لكن هذا لم يدم طويلًا، فحين استحوذ حزب البعث على السلطة بدأ يُضيِّق دائرة الانفتاح حتى أغلقها تمامًا؛ تمثَّل ذلك بحظر الأحزاب المعارضة، وملاحقة المنتسبين لها، وكان للشعراء الخصوم نصيب كبير من القمع، فمن لم يستطع الهرب أو السكوت، كان مصيره في قصر النهاية أو الشعبة الخامسة، مشنوقًا، أو ذائبًا في أحواض «حامض النتريك (HNO3)». هذا المقال يتناول ترجمة خمسة شعراء أعدمتهم سلطة البعث، وهم يمثلون النبرة العالية لصوت الشعر العراقي الرافض للديكتاتورية.

«مَن يمدُّ الآنَ كفّيه لكي نحارب؟».. الشاعر رياض البكري

يُعرّفه جيل السبعينيات بأنّه لوركا العراق، أبوه كمال البكري كان يساريًّا وموظفًا في السكك الحديدية، وكان مطاردًا من السلطات في العهد الملكي وكذلك سلطة الجمهورية الثانية بعد انقلاب عام 1963 بسبب نشاطه السياسي المعارض، سُجن مرات عدة، وخسر وظيفته من جرّاء ذلك، لكنّ الابن الذي سار على خطى أبيه، خسر حياته، وضاع شعره في الصحف العراقية والعربية موقعًا بالأسماء المستعارة خوفًا من عيون السلطة.

ولد رياض البكري في مدينة بابل عام 1950، لكنّه لم يلبث بها إلا قليلًا، مثلما لم يلبث في أية مدينة يهرب إليها والده متخفيًا من رجال الأمن. تقول شقيقته نوال البكري في مقال لها عن رياض: «كانت أقصى أحلامه اللعب مع أصدقاء لا يضطر إلى تبديلهم بين الفينة، والفينة»، فلا أصدقاء دائمين في بابل، أو في السماوة، أو في بغداد.

رياض البكري

ترك رياض البكري الدراسة لمّا أكمل الإعدادية، عمل في مطبعة بالعاصمة العراقية بغداد، واعتقل عام 1971 بعد مشاركته في مظاهرات عمّالية يسارية مناهضة لحزب البعث في بغداد، وظل مسجونًا في قصر النهايةلمدة 18 شهرًا خرج بعدها بكفالة مالية.

أسس مع الشاعر محمد علي الخفاجي «جماعة النشأ المعاصر» ونشر قصائده في صحف عراقية وعربية منها جريدة «الجمهورية» و«العرب» و«مجلة الاذاعة والتلفزيون»، لكنّه ترك العراق وغادر إلى لبنان لينضم إلى المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا إلى «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، ثم إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وكان يُعرف باسم «أبو نضال».

من يمد الآن كفيه لكي نحارب

من ينزع الجلد الفلسطيني والمصري والسوري كي نحارب

من ينزع الجلد الطوائفي في لبنان كي نحارب

من يخرج السودان من زنزانة التعذيب كي نحارب

من يفتح الطريق للخليج.. إنَّه الخليج.. إنَّه الخليج

واهب المحار واللؤلؤ والردى

أصرخ بالخليج: يا خليج.. يا خليج.. يا خليج

مد لي يدا

مقطع من قصيدة للشاعر نُشرت تحت اسم «روشن» في مجلة «إلى الأمام»

ظل رياض البكري يتردد سرًّا على العراق بين عامي 1976 و1977 متنكرًا بأسماء مستعارة، ومستخدمًا جوازات سفر مزورة، حتى ألقي القبض عليه أخيرًا في بغداد نهاية عام 1977، ونُفذ به حكم الإعدام شنقًا 1978.

يروي الكاتب خلدون جاويد عن أحد السجناء مع رياض البكري، وهو عامر الداغستاني أنّه حين أخرجوه من الزنزانة فجرًا إلى باحة الإعدامات وصعدوا به إلى حبل المشنقة صرخ: أخبروا أهلي أنني الشاعر رياض البكري، متُّ ولم أعترف.

«هنا موسم للكآبة والوحل».. الشاعر خليل المعاضيدي

شكلت قصيدته «هلّا قرأتَ البيان الشيوعي؟» نقلةً نوعيةً في معارضته للسلطة، وتأثيرها يأتي في قراءتها مطلع السبعينيات أمام جمهور كبير في حدائق نقابة المعلمين بمدينة بعقوبة، وحتى بعد أن ترك الحزب الشيوعي ظلَّ خليل المعاضيدي ملاحقًا من قبل السلطة، وتحكي شقيقته أنَّ رجال الأمن اختطفوه في إحدى المرات ورموا أمامه قطعةً من اللحم في حوضٍ مليء بـ«حمض النتريك (HNO3)» وهددوه بإذابة جسده مثل تلك القطعة إن ظلَّ يمارس نشاطاته المعارضة للدولة.

خليل المعاضيدي من مواليد مدينة بعقوبة عام 1946، تلقى تعليمه الأولي في مدارسها، ثمَّ درَس الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد، وعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدارس محافظة ديالى من عام 1970 وحتى عام 1978 حين فُصل من الوظيفة، وعمل دهّانًا في صباغة الدور والمباني.

خليل المعاضيدي مع تلاميذه

يصفه الشاعر سعدي يوسف بأنّه «أهم شاعر في السبعينيات، ونصّه معافى متدفق، وتدفقه مؤسَّسٌ على ثقافة عالية» ويحكي عنه أحد تلاميذه واسمه جمال سيفر أنه «كان لا يحبذ القيام للمدرّس عند دخوله للصف، وكان يقسم وقت الدرس إلى نصفين، الأول لتعليم اللغة الإنجليزية، والثاني لقراءة الشعر»، وهذا جعله عرضةً لمضايقات كثيرة منها اتهامه بالمثلية الجنسية، ونقله إلى مدارس في قرى نائية.

أحمد السيد علي هو أحد تلاميذ الشاعر خليل المعاضيدي، يروي عنه في مقالة له بعنوان «ومضات مع الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي» في موقع «الحوار المتمدن»: «كان يشجعنا على المطالعة الخارجية وقراءة الأدب والشعر وكذلك السياسة، وكنا نلتقي معه بعد دوام المدرسة، وقد أشاع عنه رجال الأمن بأنه يحب العلاقات المثلية الذكورية، ليس لشيء وإنما لعلاقته المثالية مع الطلاب، وكان رجال الأمن يراقبونه كثيرًا وهو لا يأبه بهم، وقد يخرج في الامتحان الشفهي عن موضوعة الإنجليزي فيسأل عن الشعر والموسيقى والغناء، وكان يطلب منا أحيانًا أن نغني».

لم ينجح خليل المعاضيدي بالتخفي كثيرًا، ففي عام 1981 ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية، اعتقل وظل مصيره مجهولًا حتى عام 1984، حين أبلغت السلطة عائلته بنبأ إعدامه، وقد رفضت الدولة تسليم جثَّته ومنعت أهله من إقامة مراسم العزاء.

في الطريق إلى الحب

أوقفني الجلنار وبعض من العوسج الفظ

أعطيته لحظةً من جبيني ثمَّ نمتُ على طلقةٍ في الظنون

في الطريق إلى الحرب

دوَّخني الجبناء الكثيرون

دارت بقربي المعارك

وانطفأتْ طلقةٌ في الظنون

«قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعًا».. حسن مطلك

كان شاعرًا ورسامًا وروائيًّا ونحاتًا، وكان ثائرًا أيضًا. ولد حسن مطلك عام 1961 في قرية سديرة التابعة لقضاء الشرقاط في شمال العراق، بدأ ولعه بالرسم مبكرًا، لكنَّ أبوه الذي كان رجلًا متدينًا كان يمزق لوحاته لأنَّه يعتقد أن الرسم حرام، ومن أجل هذا لم يحقق رغبته في دراسة الفنون الجميلة، واختار التخصص عوضًا عن ذلك في التربية وعلم النفس، من جامعة الموصل التي تخرج فيها عام 1983.

أنهى روايته الأولى «دابادا» عام 1988، وكان ينشر كتاباته تحت اسم «حسن مطلك الروضان» غير أنَّه حذف لقب «الروضان» لأنَّ كاتبًا يحمل الاسم واللقب ذاته نشر روايةً تتحدث عن «نضال حزب البعث»، وظل حسن مطلك يعمل مدرسًا لمادة التربية وعلم النفس في معهد المعلمين بمدينة كركوك.

أصدر مع مجموعة من أصدقائه مجلة «المُربّي»، ونشر فيها مقالتين إحداهما عن الفن التشكيلي، والأخرى قراءة لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وهو متزوج وله ابنتان: مـروة وسـارة، كما حازحسن مطلك الجائزة الأولى للقصة القصيرة عن الحرب العراقية- الإيرانية سنة 1983، عن قصته «عرانيس»، وجائزة الدولة التقديرية سنة 1988 عن قصته «بطل في المحاق».

عام 1990، شارك حسن مطلك في محاولة لقلب نظام الحكم مع مجموعة من الضباط، اعتقل على إثرها ونُقل إلى سجن الشعبة الخامسة بمديرية الأمن العامة، وأصدرت بحقه محكمة الثورة حكمًا بالإعدام، وأُعدم شنقًا في العام نفسه.

كن سعيدًا مرة واحدة وانتحر

مرةً واحدةً فقط

مرةً واحدة

أقول لك -وهذا اكتشافي-

إنَّني الناجي الوحيد على جبل الطوفان

وأقول إنَّني آخر من وجد السعادة

وعزفَ في ثقوبها

لن أسمع صرختك وأنت تقول لي: هي كذبة

الشاعر حسن مطلك

«وحدي.. يسكنني ضدي».. الشاعر مناضل نعمة

حياةٌ قصيرة، لكنَّها حافلة بالمضايقات والاعتقالات والموت، هكذا يمكن تلخيص حياة الشاعر مناضل نعمة الجزائري الذي سقط في هاوية الموت وهو لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره.

الشاعر من مواليد مدينة البصرة عام 1960، نشأ ودرس فيها وكتب مبكرًا قصائد الرفض خلال عمله كاتبًا في مصلحة التمور في البصرة، وهذا ما جعله عرضةً للحبس والتعذيب بشكل شبه منتظم. وعن هذا يحكي صديقه الروائي جابر خليفة أنّ «جماعة الاتحاد الطلابي قاموا باعتقاله، وكانت آثار الضرب والكدمات واضحة على جسده؛ لكنَّه كان ساخرًا مستهزئًا وقويًا».

آه يا محكمة العدل الغبية

حققي -ما دمتُ مصلوبًا على باب المدينة- أمنياتي الذهبية

وانشري العدل

فإنَّ العدل أمسى في بلادي

بندقية

التحق -مجبرًا- بالجيش خلال الحرب العراقية الإيرانية، ثمَّ ألقي القبض عليه مع شقيقه الأصغر باسم عام 1983، بتهمة محاولة الهرب وعبور الحدود العراقية التركية. وقد استطاعت عائلته آنذاك الحصول على وثيقة قرار الإعدام من مكتب وزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح، كما استطاعت الحصول أيضًا على شهادة الوفاة الرسمية بعد سقوط النظام عام 2003، وقد وثّق بها تاريخ الإعدام في أبريل (نيسان) عام 1984.

الشاعر مناضل نعمة

«هنيئة الرقبة التي تحمل رأس البلاد».. خالد الأمين

أُعدم الشاعر خالد الأمين في سجن قصر النهاية ببغداد عام 1972، وتُرجِّح الروايات أنَّه أُلقي في حوض من «حامض النتريك (HNO3)»، وهذه الطريقة في الإعدامات كانت شائعة حينذاك عندما كان ناظم كزارمديرًا للأمن العامة.

ولد خالد الأمين لعائلة كردية في مدينة الناصرية جنوبي العراق عام 1945، وكان أبوه من أثرياء المدينة القلائل، وقد أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الناصرية، ثمَّ نال شهادة البكالوريوس بالاقتصاد من جامعة بغداد عام 1967.

انتمى خالد الأمين إلى «الحزب الشيوعي»، وكان محظورًا حينها بعد سيطرة «حزب البعث» على السلطة، وعن هذا يقول الشاعر حسين الهنداوي الذي كان رفيقًا لخالد الأمين في تلك الفترة: «لا أذكر أننا تحدثنا بمفردات الأيديولوجيا اليابسة أو بالشعارات. وضع تنظيمنا الطلابي ورفده بالأعضاء الجدد كان موضوعنا الأساسي في لقاءاتنا السرية العديدة التي لم تكن تدوم غير ساعة واحدة في الغالب، وكان هو مسؤول الحزبي خلالها، وكان اللقاء في درابين الباب الشرقي عادة، فالحذر من بطش الأجهزة البعثية صار شاغلنا الأكبر في تلك الأيام».

وددت لو أثقب غرفتي

لأسيل نحو الشجر، حزينًا، وبغبرة خفيفة

لأني أعلم اليوم

ليس ثمة بلل في هذه الساقية

بل ولا حتى نافذة تشرق منها زهرة الليل

تأثر خالد الأمين بالشعر الفرنسي، وقرأ رامبو وبودلير ومالارميه وسان جون بيرس واراغون، كما كتب مقدمات لقصائد فرنسية مختارة ترجمها الكاتب أحمد الباقريفي كتاب حمل عنوان «رصيف سوق الأزهار». ويقول المترجم إن مقدمات خالد الأمين بلغت مستوى رفيعًا ضاهت فيه القصائد المترجمة.

أتلفت قصائد خالد الأمين بعد إعدامه، وكانت هذه عادة عوائل الشعراء أو الكتاب الذين تعدمهم السلطة، يتخلصون من نتاجهم الأدبي مخافة أن تلاحق السلطة بقية أفراد العائلة. ولا تتوفر للشاعر خالد الأمين سوى ثلاث قصائد هي «القلب البديع»، و«منفضة الأصابع المحشوة بالأصوات»، و«الغرف».