ثقافة وأدب

من هو المطران غريغوريس حداد وما هو الاثر الذي تركه في تاريخ الانسانية

رامي داؤد

5 نيسان 2019 23:40

يشكل المطران غريغوار حداد منذ اكثر من نصف قرن "ظاهرة" متجددة في المجتمع اللبناني، تضاربت حولها الآراء: من مؤيد لها الى معارض، ومن لا مبال بها الى متردد في اتخاذ موقف منها. وعلى الرغم من ان هذه الظاهرة

يشكل المطران غريغوار حداد منذ اكثر من نصف قرن "ظاهرة" متجددة في المجتمع اللبناني، تضاربت حولها الآراء: من مؤيد لها الى معارض، ومن لا مبال بها الى متردد في اتخاذ موقف منها. وعلى الرغم من ان هذه الظاهرة مرّت بمراحل تردد فيها اسم صانعها على كل شفة ولسان، وتناولتها وسائل الاعلام في شكل مميز جداً، فقد بقي الكثير من الغموض يكتنف معالمها.
فلو طرحتَ على الناس السؤال الآتي: مَن هو غريغوار حداد؟ لحصدت عدداً من الاجابات، متناقضة ومبهمة وناقصة وصحيحة بعض الشيء ومغلوطة بعض الشيء. كأن تسمع هذا او ذاك يقول عنه: مطران، رجل دين، مصلح اجتماعي، أسقف محروم، شيوعي، صاحب مشاكل مع طائفته، قديس، متجرد، المطران الاحمر، مطران الفقراء، المطران "الأبونا"، والى ما هنالك من تسميات واحكام واوصاف ولقد توخينا من كتابة هذا المقال ان نطرح امام القارئ عناصر تأريخية موضوعية تتناول الظاهرة من بدايتها حتى يومنا هذا، وتحليلاً سوسيولوجياً لشرح هذه الظاهرة في عناصرها وأطرها ووظائفها واهدافها، للوصول، اخيراً، الى استشراف انعكاساتها ومستقبلها.
ولد غريغوار حداد سنة 1924 في سوق الغرب من عائلة بروتستانتية متحدرة من اصل ارثوذكسي. سمّاه والده نخله وعندما سيم كاهناً اتخذ اسم غريغوار تيمناً بالبطريرك غريغوريوس حداد الذي ترأس كنيسة انطاكيا، اليونانية الارثوذكسية، من سنة 1906 حتى سنة ،1923 وذلك لإعجاب والده بذاك البطريرك المتزهد والعلاّمة، صديق اهل المعرفة، وصديق الاسلام، ذاك القومي العربي الذي وزّع خيرات الكنيسة، إبان المجاعة، للفقراء المسيحيين والمسلمين على السواء. 
سيم كاهناً سنة 1949 بعدما درس اللاهوت في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، وبعد ثلاث سنوات عُيّن نائباً عاماً على ابرشية بيروت للروم الكاثوليك. رسم اسقفاً سنة 1965 فقام بمهمته اولاً كأسقف معاون للمطران فيليبس نبعه الذي اسند اليه مسؤولية خدمة ابرشية بيروت إبان مرضه. وبعد ثلاث سنوات توفي المطران فيلبس نبعه فانتخب السينودس غريغوار حداد مطراناً اصيلاً ،ومنذ ذلك الحين، أخذ البعض يتململون من بساطته وفقره وافتقاره الى مظهر الأبهة، ومن انه لا "يمثّل" خير تمثيل مركز مطران يترأس اكبر ابرشية للروم الكاثوليك في البلاد العربية واهمها، عددياً واقتصادياً. والأب غريغوار حداد (هكذا رغب في ان يدعوه الناس) كان واحداً من المطارنة الذين وقّعوا وثيقة يتعهدون فيها ممارسة الفقر في حياتهم الشخصية، وقد صدرت تلك الوثيقة في الدورة الاخيرة للمجمع الفاتيكاني الثاني عام .1965 
لم يكثر من الكتابة، ولا رغب في الرحلات الى خارج لبنان الذي يعرف عن ظهر قلب مناطقه الاكثر حرماناً.

لقد كان الامر واضحاً منذ البداية: لم يكن متوقعاً من المطران غريغوار حداد ان يقتصر نشاطه على ادارة املاك الابرشية ولا ان ينحصر نضاله في حماية حقوق طائفته وحسب، ولا ان يحوط نفسه بمسيحيين متصامين عن سماع نداء العالم. لكن اهتمام الأب غريغوار بمجمل القضايا الوطنية لم يمنعه من العمل الحثيث على اصلاح احوال الابرشية اصلاحاً جذرياً، هذه الابرشية التي تضم عشر رعايا في بيروت وعشراً في ضواحي بيروت وعشرين في جبل لبنان وكان سلفه المطران فيلبس نبعه حاول ان يحد من تباعد الفروقات بين دخل الكهنة، الذي يراوح بين 1500 ليرة و150 ليرة شهرياً، بحسب اختلاف المراكز الراعوية، فوضع المطران غريغوار تنظيماً مالياً جديداً تشترك في تمويله العائلات بحسب امكانات كل منها، فتصير جميع الخدمات الدينية، من عمادات وزواجات وجنازات، مجانية، على ان يتقاضى كل من المطران والكهنة رواتب متساوية من الصندوق العام. وكذلك طبقت مبادئ العدالة الاجتماعية على العمال العلمانيين المشتغلين في الابرشيات. وهكذا مكّن العائلات التي كانت تعمل لسنوات طويلة في اراضي الوقف من ان تستملك تلك الاراضي. فعلى هذه الاسس سار العمل الرسولي من دون ان يتعثّر بالمشاكل المالية. اذ انه أقام الحوار ونشّطه في كل المستويات فألّف مجلس الكهنة، والمجلس الرعوي الذي يضم عناصر من العلمانيين والرهبان والراهبات والكهنة وممثلين عن المجالس الرعوية، كما اسس لجنة الطقوس الكنسية ولجنة الوعظ واللجنة المدرسية واللجنة الاجتماعية. وبهذا طبّق غريغوار حداد أحد توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يدعو الى إشراك العلمانيين في ادارة الكنيسة. 
على صعيد الفكر 
بعد مرور 25 سنة من الخدمة، بقي الأب غريغوار محافظاً على التزامه البديهي الاساسي، فهو يعتبر ان من واجبه مضاعفة الجهود الرعوية من اجل من هم في الخارج، اولئك الذين ما زالوا يذهبون الى الكنيسة ولو بدون ايمان، واولئك الذين أهملوا كل شيء: الممارسات الدينية، الايمان بالمسيح، الايمان بالله... فالحركة الاجتماعية لم تكن كافية للتدليل على شدة اهتمامه بكل الانسان لأن مجال عملها لا يطاول الامور الدينية. 
هنا قرّر غريغوار حداد تأسيس مجلة "آفاق" مع صديقين له هما بولس الخوري وجيروم شاهين الذي ترأس تحريرها، وباشتراك عدد كبير من المثقفين اللبنانيين كمستشاري تحرير. توخت المجلة ان تكون مستقلة وتعددية تريد مخاطبة شبيبة هذه البلاد، وفي نوع خاص المسيحيين النقديين، والذين خلعوا عنهم المسيحية، وحتى غير المسيحيين وغير المؤمنين لكن التعددية والانفتاح على الحوار فيها لا يعنينان مطلقا الحياد "الموضوعي" اللاسياسي. فالحياد الموضوعي اللاسياسي في الكنيسة وفي مجتمع تمزقه التناقضات ما هو سوى موقف مقنّع يخفي وراءه

دائما التزاماً معيناً لقد اتخذت "آفاق" موقفها بمساندة المسحوقين، واعلنت التزامها السير نحو التحرير. ولها نظرة مستقبلية تستشرف نهضة اصيلة في المسيحية العربية وفي التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية. بهذا الالتزام تصبح التعددية ذات معنى، واي مفهوم آخر لتعددية "آفاق" ليس سوى هزال وانهزامية ووهم سراب واذا بكتابات الاب غريغوار تُدخل على المجلة عنصرا جديدا يختلف عن كل ما في غيرها من المجلات. ولم يسلك غريغوار حداد بمقالاته في اللاهوت الاكاديمي، بل خاض لاهوتا يتجاوب مع مقتضيات الواقع الاجتماعي والسياسي ومع ازمة الشبيبة في تحديد هويتها ورفضها وحيرتها او لامبالاتها. 
تعرضت مقالاته لانتقادات عنيفة من اولئك الذين لم يمكّنهم عقلهم من السلوك في منظور الكاتب وادراك اسلوبه، فدخلوا معه في مجابهة لم تقتصر على الروم الكاثوليك وحدهم بل تناولت المسيحيين في لبنان وفي الخارج عندئذ هب الكثير من المؤمنين، ناهضين من غفوتهم، واعين مهامهم وموقعهم في الكنيسة، فانجلت لهم خطورة الموقف ولو في درجات متفاوتة، وحفزتهم "قضية" غريغوار حداد على اتخاذ مواقف معينة منها. 
لم يكن قد صدر من مجلة "آفاق" سوى ستة اعداد، ومع ذلك نشأت ازمة في الكنيسة وبالتحديد في كنيسة الروم الكاثوليك، من جراء المقالات الستّ التي كتبها المطران غريغوار حداد في المجلة. لن ادخل هنا في تفاصيل ما جرى، فالمسألة يطول شرحها وليس من مجال للاطالة. فلكي لا اسيء الى احد اذكر فقط ما انتهت اليه القضية تاركا لمن يريد الاطلاع على التفاصيل مراجعة العدد الخاص من مجلة "آفاق" رقم 13/14 الصادر في العام 1975 الذي خصص بكامله لهذا الموضوع تاليا اقول: اعتبر البطريرك (الراحل) مكسيموس الخامس حكيم ان كتابات المطران غريغوار حداد في "آفاق" تتناقض مع العقيدة الكاثوليكية. وتم بحث هذا الامر في سينودس مطارنة الروم الكاثوليك في ثلاث دورات انعقد فيها، الاولى استثنائية (في ايار 1974) والثانية عادية (في آب 1974) والثالثة استثنائية (في 24 كانون الثاني 1975) كلّف السينودس لجنة مؤلفة من خمسة لاهوتيين دراسة الجوانب الايمانية والعقائدية في كتابات المطران حداد. قدمت اللجنة المذكورة تقريرها الى السينودس. واحد من اعضاء اللجنة فقط رأى في كتابات المطران حداد خروجا على المعتقد الكاثوليكي الرسمي. اما الاعضاء الاربعة الباقون فأشاروا الى وجود بعض الالتباسات في التعابير اللفظية فقط، لكنهم اكدوا كلهم بالحرف الواحد ما يأتي: "هناك نقطة نتفق عليها جميعا وهي اننا لا نجد ما يبرر حكما من قبل السينودس المقدس. ولا نريد اطلاقا ان تستعمل اسماؤنا وآراؤنا لصياغة مثل هذا الحكم"في هذه الاثناء كانت القضية قد رفعت الى السلطة الفاتيكانية. الا ان البطريرك حكيم كفّ يد اسقف بيروت المطران حداد عن ادارة ابرشيته مدة شهرين، ثم مدّد تعليق صلاحياته، ثم تم اتفاق بأن يعود المطران

غريغوار الى ابرشيته في السادس من شباط 1975 في ابعد حد. وفي الموعد المحدد اعلن البطريرك انه تلقى من المجمع الشرقي رسالة تدعو الى تمديد فترة تعليق صلاحية المطران غريغوار حداد الى ان يبت مجمع العقيدة والايمان نهائيا الموضوع في هذه الاثناء ايضا كانت الصحافة تتناول القضية باهتمام كبير، كما ان لجانا تألفت من علمانيين وكهنة، لمساندة قضية المطران حداد وقامت مسيرات شعبية الى دار البطريركية وجرت اعتصامات، من دون حدوث اي اعمال عنف او إخلال بالأمن استدعي المطران حداد الى الفاتيكان ومثل امام اللجنة المختصة وجاء قرار اللجنة يؤكد ان كتابات المطران غريغوار حداد لا تخرج اطلاقا على العقيدة الكاثوليكية. رغم ذلك اتخذ سينودس كنيسة الروم الكاثوليك قرارا اداريا بنقل المطران غريغوار حداد من ابرشية بيروت للروم الكاثوليك، مسندا اليه منصب مطران فخري على ابرشية أضنة في تركيا. 
حينذاك تفرغ غريغوار حداد كليا للعمل الاجتماعي، وفي الاخص لضمد جروحات اللبنانيين كافة التي كانت الحرب اللبنانية آنذاك تستنزفها. وكانت كنيسته تلجأ اليه في مهمات صعبة (كرئاسة ابرشية بعلبك في العام 1977 ثم رئاسة ابرشية صور في العام 1988 اثناء شغورهما) وحجب دخان الحرب صدور "آفاق" الى ان عادت عام ،1987 ثم توقفت لتعود في شكل منتظم في العام .1998 
-    على صعيد الحوار الاسلامي - المسيحي والعيش المشترك 
من اهتمامات غريغوار حداد الاساسية، فكرا وممارسة، اقامة الحوار الاسلامي - المسيحي في سبيل انماء العيش المشترك وتعميقه. في الستينات والسنوات الاولى من السبعينات عمل المطران حداد في مسألة الحوار الاسلامي - المسيحي، على خطين: عمليا، بتعميق الحوار الحياتي، لاسيما في اوساط الشبيبة عبر العمل الاجتماعي المشترك. وفكريا، بمحاولة الوصول الى قواسم مشتركة (ويسمّيها هو جوامع مشتركة) على صعيد الفكر اللاهوتي الا انه ما لبث ان تحقق من لاجدوى الحوار الاسلامي - المسيحي على الصعيد اللاهوتي والعقائدي. كما وجد ان الحوار الممارَس في لبنان غالبا ما يكون حوار طوائف، وحوار صالونات، واحيانا رياء متبادلا لذلك انكبّ على القيام بنشاطات عديدة تجمع الشبيبة، من الدينين ومن مختلف الطوائف، لتقوم بمشاريع اجتماعية وبيئية وصحية وثقافية مشتركة. وهكذا يتم التعارف المتبادل وتصحَّح الصور المشوهة، وتزول الاحكام المسبقة. الى هذا يدأب المطران حداد اليوم على صياغة ما يجمع المسيحيين والمسلمين على صعيد الروحانية والاخلاقيات والقيم. ولا ينفك ينادي بأن المرض الذي يتفشى في المجتمع اللبناني التعددي، ويمزق نسيج الوحدة الوطنية هو الطائفية. من هنا جاءت دعوته الى العلمانية. لكنه يردد باستمرار ان العلمانية المرتجاة ليست علمانية بعض الدول الغربية، في بعض حقباتها التاريخية، وهي علمانية إلحادية، بل علمانية نصوغها نحن بمقتضى اوضاعنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ونجعلها صيغة لا تلغي الطوائف بل تتبنى المواطنة الواحدة المؤسسة