تقارير وحوارات

لماذا لم تبتكر الدول العظمى التي تمتلك التكنولوجيا اللازمة والتمويل الكافي طائرةً نوويةً حتى الآن؟

10 نيسان 2019 12:28

للغواصات النووية أفضليةٌ كبيرة على نظيراتها العادية؛ إذ إنَّها تستطيع الإبحار تحت سطح الماء بسرعاتٍ عاليةٍ لعقودٍ من الزمن دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود أبدًا. لذا طلبت بحرية الولايات المتحدة مؤخ

للغواصات النووية أفضليةٌ كبيرة على نظيراتها العادية؛ إذ إنَّها تستطيع الإبحار تحت سطح الماء بسرعاتٍ عاليةٍ لعقودٍ من الزمن دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود أبدًا.

لذا طلبت بحرية الولايات المتحدة مؤخرًا مبلغ 139 مليار أمريكي من الكونجرس لتحديث أسطول غواصاتها التي تعمل بالطاقة النووية. ويتوقَّع مُخطِّطو وزارة الدفاع أن تتمكَّن الغواصات الجديدة من السير طوال فترة تشغيلها بدفعةٍ واحدةٍ من الوقود، وتصل تلك الفترة إلى قرابة نصف قرن.

فلماذا لم تبتكر الدول العظمى التي تمتلك التكنولوجيا اللازمة والتمويل الكافي طائرةً نوويةً حتى الآن؟

حاولت مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية الإجابة عن ذلك السؤال في تقريرٍ نشرته مؤخرًا، موضحةً أنَّ هناك العديد من الأسباب التي تعوق تصميم طائرةٍ نوويةٍ فعَّالة. إذ إنَّ جعل المُفاعل النووي صالحًا للطيران هو أمرٌ بالغ الصعوبة، فضلًا عن استحالة منعه من بث إشعاعاته الخطيرة وإصابة أجساد الطاقم بها.

وتتجلى تلك المشكلة في حقيقة أنَّه حين أدَّت مخاطر نهاية العالم بسبب الأسلحة النووية إلى الخروج بخُطَطٍ براجماتيَّةٍ مُفاجئةٍ إبان الحرب الباردة، اقترح المُهندسون حل المُشكلة بتعيين طواقم من كبار السن في القوات الجوية لقيادة الطائرات النووية الافتراضية؛ لأنَّ هؤلاء سيموتون قبل أن يُصيبهم التعرُّض للإشعاع بالسرطانات الفتاكة.

حلمٌ إستراتيجي في الخمسينات

ذكرت المجلة أنَّ الفيزيائي الإيطالي الأمريكي إنريكو فيرمي اقترح فكرة الطائرة النووية للمرة الأولى عام 1942 أثناء عمله في مشروع مانهاتن لبناء القنبلة الذرية. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة العمل على تحقيق حلم فيرمي بإنتاج طائرةٍ تعمل بالطاقة النووية.

ومنذ عام 1946 وحتى عام 1961، عملت فرقٌ ضخمةٌ من المهندسين والإستراتيجيين والإداريين على كمٍ هائل من المخطَّطات والتقارير والوثائق الرسمية في محاولةٍ لتنفيذ الفكرة.

تتطابق المزايا الافتراضية للطائرات النووية مع الغواصات النووية بحسب التقرير. إذ لا تُضطر الغواصات النووية إلى الصعود إلى سطح الماء للتزوُّد بالوقود، ولن تُضطر الطائرات النووية أن تهبط إلى الأرض. وتعهَّد مُقترحٌ من وزارة الحرب (وزارة الدفاع حاليًا) عام 1945 أنَّ «الرحلات الأسرع من الصوت حول العالم ستكون خيارًا مُتاحًا على الفور بفضل الدفع النووي». وشرحت مُذكِّرةٌ سريةٌ لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية وعد الطائرة النووية بلهجةٍ أكثر اعتدالًا، وهذه المذكرة يُحتَفَظ بها الآن داخل مكتبة أيزنهاور الرئاسية.

توضح المذكرة أنَّ الطاقة النووية «يصل مداها إلى دورةٍ أو أكثر حول الكرة الأرضية عند شحن المفاعل لمرةٍ واحدة». وبهذا تحوَّلت فكرة قاذفة القنابل التي تعمل بالطاقة النووية إلى حلمٍ استراتيجيٍ للجيش، إذ يُمكنها أن تظل في الهواء لأيامٍ حتى تُغطي أي عددٍ من الأهداف في أي ركنٍ من العالم قبل أن تعود إلى الولايات المتحدة، دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود.

وأفاد تقرير المجلة أنَّ مشكلة تزويد الطائرات بالوقود سيطرت على عقول الكثيرين خلال الحرب الباردة. إذ تُجاهد قاذفات القنابل للوصول إلى أهدافها، وتعلق أحيانًا داخل أراضي العدو دون وقودٍ كافٍ للعودة إلى أرض الوطن في حال سافرت بخزان وقودٍ واحد.

وفَّر التزوَّد بالوقود جوًا حلًا لتلك المعضلة، لكنَّه يظل حلًا فقيرًا. إذ إنَّ الطائرات التي تُرصد أثناء تزوُّدها بالوقود جوًا فوق أراضي العدو مُعرَّضةً لنيران المدفعية المُضادة للطائرات. وستُؤدي مناورات المراوغة إلى فصل الطائرتين والحيلولة دون نجاح عملية التزوُّد بالوقود جوًا؛ مما يُعرِّض المهمة بأكملها للخطر.

ولتقليص مخاطر التزوُّد بالوقود جوًا، اعتمدت الولايات المتحدة على شبكةٍ عالميةٍ من قواعد القوات الجوية بحسب التقرير. هذه القواعد، التي كانت قريبةً من الاتحاد السوفيتي بحكم العادة، سمحت للطائرات أن تبلُغ أهدافها وتعود بخزان وقودٍ واحد. لكنَّ إدارة تلك القواعد لها تكلفةٌ باهظةٌ ولا تحظى بشعبيةٍ كبيرة.

وفي وقتٍ من الأوقات، عرضت الولايات المتحدة على الدنمارك ذهبًا بقيمة 100 مليون دولارٍ أمريكيٍ مقابل شراء جزيرة جرينلاند (البلد العضو في مملكة الدنمارك) لتحصل على موقعٍ إستراتيجيٍ جديدٍ لقواعدها. وقررت الدنمارك الاحتفاظ بجرينلاند في النهاية، لكنَّ ذلك يُبرهن على ما وصلت إليه الولايات المتحدة في سعيها الحثيث لتعويض المدى المحدود لطائراتها. ومن هنا ظهرت الحاجة للطائرات التي تعمل بالطاقة النووية، إذ إنَّها ستجنب الولايات المتحدة كافة تلك المشاكل.

مُعضلاتٌ تقنية

للطاقة النووية مشاكلها الخاصة حسبما أوضحت «ذي أتلانتك». إذ يجب أن يكون المفاعل صغيرًا بما يكفي لوضعه داخل الطائرة، مما يعني أنَّه سيُولِّد حرارةً أكبر من المفاعل القياسي. وقد تُؤدِّي هذه الحرارة العالية إلى انصهار المفاعل، والطائرة معه، وسقوط كتلةٍ مُشعِّةٍ من المعادن السائلة باتجاه الأرض.

وأثبتت مشكلة حماية الطيارين من إشعاع المفاعل أنَّها أكثر صعوبة. إذ يحتاج المفاعل بحسب المجلة إلى طبقاتٍ سميكةٍ وثقيلةٍ من الدروع لحماية الطاقم من النشاط الإشعاعي. لكنَّ الطائرة يجب أن تكون خفيفة الوزن للغاية حتى تتمكَّن من الإقلاع، فالدروع الواقية الملائمة لا تتوافق مع الطيران.

لكن افترض المهندسون رغم ذلك أنَّ الوزن الذي يُوفِّره غياب الوقود سيكون كافيًا لتعويض وزن المفاعل ودروعه بحسب المجلة. وقضت الولايات المتحدة 16 عامًا في تطويع الفكرة دون جدوى. وسعى الاتحاد السوفيتي إلى تصنيع الطائرات ذات الدفع النووي أيضًا، لكنَّه واجه المشكلات نفسها.

وبحلول عام 1958، زعمت مقالةٌ شهيرةٌ، نشرَتها مجلة «أفييشن ويك» الأمريكية وتضمنت معلوماتٍ مختلقةٍ في مجملها، أنَّ السوفييت يُجرون تجاربهم على طائرةٍ نوويةٍ فعَّالة. وسرعان ما أوصى الرئيس دوايت أيزنهاور بالهدوء وندَّد بالمقال الذي وصفه بالكاذب. وأوضح ممثلٌ عن الاتحاد السوفيتي: «لو نجحنا في تسيير طائرةٍ تعمل بالطاقة الذرية، سنكون فخورين للغاية بإنجازنا وسنُخبِر العالم أجمع بأمره».

فكرةٌ تلفظ أنفاسها الأخيرة

ذكر التقرير أنَّ البرنامجين فشلا في تخطي مشاكل الدروع والوزن. وأدَّى تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في الخمسينيات إلى تراجع أهمية تطوير قاذفات قنابل تعمل بالطاقة النووية. إذ انعدمت ضرورة وجود الطائرة النووية من وجهة النظر العسكرية؛ لأنَّ الصواريخ الباليستية جنَّبت الجيش مشاكل الطائرات النووية التي يقودها البشر. فالصواريخ الباليستية تنطلق إلى مهماتها في اتجاهٍ واحدٍ دون الحاجة إلى وقودٍ أو طيَّارين أو دروع. واختفى تمويل المشروع في ظل غياب المُبرِّر العسكري للطيران الذري.

وتلاشت فكرة الطائرة النووية من الأذهان رويدًا رويدًا بحسب المجلة. وفي أواخر الخمسينات، قلَّصت إدارة أيزنهاور تمويل المشروع. وفعل نيكيتا خروتشوف الأمر نفسه مع المشروع السوفيتي الموازي. وأنهت الدولتان مشاريع الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية تحت قيادة البشر بحلول عام 1961. وبدا أنَّ مشروع الطيران الذري حُكِم عليه بالفشل.

وأورد تقرير المجلة الحل الراديكالي الذي اقترحه الإستراتيجيون العسكريون في محاولةٍ أخيرةٍ لإبقاء المشروع على قيد الحياة: تجنيد الطيارين الذين شارفوا على الموت. وفقًا لذلك الاقتراح، ستستخدم القوات الجوية طواقمَ كبيرةً في السن بما يكفي ليموت أفرادها نتيجة الأسباب الطبيعية قبل أن تبدأ الآثار الضارة للإشعاعات في الظهور، وبذلك تتجنب البحث عن حلٍ لمشكلة الدروع.

وأوضح ليونارد وايس، خبير السياسة النووية، في مقالٍ نشرته مجلة «نشرة علماء الذرة» أنَّ الاقتراح يلغي ضرورة الدروع التي تحمي من الإشعاعات، ويُخفِّف وزن الطائرة إلى حدٍ قد يسمح للطائرة النووية بالتحليق.

عزت «ذي أتلانتك» ظهور فكرة توظيف الطيارين الحربيين من كبار السن ليجوبوا سماوات العالم على استعدادٍ لإطلاق كارثةٍ نوويةٍ وهم يتعرضون للإشعاعات إلى فكرة التمييز بناءً على العمر التي سادت مخططات نهاية العالم إبان الحرب الباردة. إذ اعتادت خطط الدفاع المدني للنجاة من نهاية العالم النووية التضحية بكبار السن أولًا.

وأوضح جو مارتن، من قسم التاريخ وفلسفة العلوم بجامعة كامبريدج، أنَّ هيرمان كان، الذي يُزعَم أنه مُلهِم فيلم Dr. Strangelove، أعدَّ تصنيفًا لاستخدامات الطعام في أعقاب كارثةٍ نووية أظهر هذا التحيَّز العُمري خلال الحرب الباردة. تراوحت مقاييس التصنيف بين أغذية الدرجة الأولى (وهي الأغذية عالية الجودة والمُخصَّصة للنساء الحوامل) وأغذية الدرجة الخامسة (وهي الأغذية المشعة التي لا تُصلح سوى لإطعام الحيوانات). وكانت الأغذية من الدرجة الرابعة مخصصة للأشخاص الذين تخطَّت أعمارهم الخمسين عامًا. وكتب كان صراحةً في كتابه «عن الحرب النووية الحرارية On Thermonuclear War»: «معظم أولئك الأشخاص سيموتون نتيجة أسبابٍ أخرى قبل أن يُصابوا بالسرطان».

لكنَّ ذلك الاقتراح الصادم فشل أيضًا في إنقاذ الطائرة النووية بحسب التقرير. إذ وجدت إدارة أيزنهاور أنَّ البرنامج لم يَعُد ضروريًا، فضلًا عن خطورته البالغة وتكاليفه الباهظة. وفي 28 مارس (آذار) عام 1961، ألغى الرئيس جون كينيدي البرنامج في أعقاب تنصيبه رئيسًا للبلاد. وبرزت عدة مقترحاتٍ لصناعة الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية منذ ذلك الحين، لكنَّ الخوف من الإشعاعات وانعدام التمويل أحبطا تلك الأفكار.