ثقافة وأدب

رندلى: ديوان الحب

الحسام محيي الدين

14 نيسان 2019 12:52

1 – رندلى سعيد عقل: " رندلى" هو ديوان شعر بالعربية الفصحى ، كتب قصائده سعيد عقل في فترة مبكرة من حياته قبل "المجدلية" و " بنت يفتاح" وغيرها  ونشرها تباعا" في جريدة " المكشوف" البيروتية في مطلع الار

1 – رندلى سعيد عقل:

" رندلى" هو ديوان شعر بالعربية الفصحى ، كتب قصائده سعيد عقل في فترة مبكرة من حياته قبل "المجدلية" و " بنت يفتاح" وغيرها  ونشرها تباعا" في جريدة " المكشوف" البيروتية في مطلع الاربعينات ثم قام بجمعها في ديوان واحد أصدره عام 1950 بعد أن أحدث فيها تعديلات على نصها الاصلي.

لقد خصص سعيد عقل ديوانه رندلى عن الحب بمختلف اوجهه . 

يبرز فيها علاقته بالشعر كحب متبادل يكتنفه الابداع والسحر والجاذبية ،وكسمة جمالية شكلت جدلية شعرية فريدة في انصهار وجدان الشاعر الاصيل بأبجدية الشعرالاصيل وقتذاك. ويختلف رندلى عن المجموعات الاخرى التي كتبها سعيد عقل ، فهو ديوان ذو ملامح رومانسية ، بما فيها من حساسية وعاطفة وحب للطبيعة .  مع رندلى نكتشف ان سعيد عقل قد نوّع في الفنون الشعرية كافة" نظما" وكتابة" فكتب المسرحية الشعرية وكتب الملحمة والنص الادبي النثري ، وهي فنون اعتبرها ادونيس عاملا" حاسما" في تنقية اللغة العربية الشعرية وايصالها الى اقصى  مدى جمالي. 

البحر العروضي الرجز هو الاكثر استعمالا" في ديوان رندلى الذي كتبه عقل وفقا" للوزن العروضي الكلاسيكي .

لقد تخضرمت التجربة الشعرية عند سعيد عقل عبر زمن طويل من ابداعاته الغزيرة ، بين مواضيع شتى صبغها بصبغة نرجسية في اكثر الاحوال غير أن نرجسيته هذه لم تكن أنانية" او غرورا" .

فليس عجبا" ان ادعي ان ابداع سعيد عقل في رندلى هي النرجسية بحد ذاتها . ولكن كيف ؟ فلنرتقي في شخصيته الشعرية الواضحة قليلا" لنتبين أن نرجسيته على مستويين : 

 

الذات أي شخصه هو . وهو المكمن الاساس في ابراز رغباته الفوقية كشخص فتحت له ابواب الشعر الممجدة فاشتهر وانتشر ، وأعمل فكره فأذهل ، وأجرى يراعه فأبدع ، كل ذلك في ثقة الفرد الواحد المبدع الذي يعلم ما يريد، دون ان يكون أنانيا" او مغرورا" .

المجتمع : أي اختزاله لفرديته المبدعة شعرا" مع الجمهور من حوله ، ليكونا فردا" في قضية . يفرحون لفرحه ويحزنون لحزنه ، والا فكيف تداعوا اليه راغبين بشعره عهدئذ ؟ وكيف له ان يسعى الى لبننة العالم وحيدا" دون جمهوره ؟ ! انها نرجسية مجتمع بأكمله وليس سعيد عقل فردا" .

2- المروءة والعفاف عند عقل :  

لقد زخرف سعيد عقل في رندلى الوعي الادبي والذوق الجمالي للناس عهدئذ ، وأخرج دلالات المرأة والحب من نمطيتها السائدة وألبسها لباسا" عصريا" دون اسفاف ،  فهي الجميلة العفيفة ، زوجة" كانت او اختا" او أما" او بنتا" فلو تناولت قصائد عديدة في ديوانه واسقطت عليها صفات الزوجة او الام او الاخت لأصبت الحقيقة وأجدت الاختيار . فقصيدة : ليلة تجتازين بستاننا ، وقصيدة انت واليخت وان نبحرا هي قصائد للحبيبة ولكنها في أوجه عديدة تصلح ان تقال للام والزوجة والاخت والابنة  دون تلك الحبيبة ، ففيها صفات الجمال الطبيعي من ورود وياسمين ونجوم وبساتين الخ ... ومن صفات الجمال الانساني : الضحك ..الموعد.. شقرة الشعر، الفتون الخ ...

هذه الصفات هي صفات المروءة التي تحترم المرأة أينما كتبها عقل شعراً ، والعفاف لهذا الشاعر اللبناني الذي كان يرفع دائما" من شأن المرأة في انتاجه الادبي ، وهو في ذلك كان في مواجهة الغزل الاباحي الذي اطل برأسه في تلك الفترة الى حد ما تحت عناوين عديدة واهية المضمون كالتحرر والتطور الخ... معيدا" الاعتبار لهذه المرأة في لغة  خاصة صنعها عبر زمانه الطويل الممتد من التجربة الشعرية .  فمن هي هذه الحبيبة التي يحبها سعيد عقل ولا يكاد يخدش حياءها بكلمة او حرف ؟ ومن هي هذه التي يحبها في ذلة الراكع ويحيا على مجرد امل بلقائها ؟ ! إنها المرأة المثالية التي تستحق كل هذا الايثار . والتي يقول فيها ايضا: 

             وقربك لي معبد لا يمس              يــزار ويلمس من شاسع 

             أحط به لفتتي من بعيــد              وأمضي على لذة القانــع 

لقد كرس العفة والمروءة  في تقديم هذا السحر الانثوي الذي يستحق عبودية الانسان الطامع بالتبرك بمعبد حبيبته التي يخلع هنا عليها ثوب القداسة شأن العابد حيال الفكرة الالهية . 

3 - لغته : يخلق سعيد عقل كلماته القائمة على الحدس أي الدلالة التي لا تتركنا نطمئن الى معنى نهائي لها ، انما تجعلنا حائرين غير مستقرين في فهمها . فالدلالة عنده لا محدودة ، وغير مقيدة بفهم واحد ، انما متعددة القراءات بتعدد المكونات الثقافية المتباينة بين الواحد والآخر . انه ياخذ من التراث الادبي العربي لباس القصيدة الكلاسيكي في القوافي والبحور كبناء جاهز في الشكل ، ولكنه يسعى بعين المبدع الى خلخلة النسق الشعري المتوارث والتقليدي في تناول الاغراض والمواضيع الادبية  التي يطرقها بلغة حديثة سهلة تواصلية ، تصرف من خلالها بالشكل العروضي الذي لعب بأوتاده وأسبابه داخل الوزن الواحد في اكثر من قصيدة دون الخروج عن حقه كأديب في ذلك التصرف ، فاستعمل مجزوء الكامل ومجزوء الخفيف ، فضلا" عن الاوزان الكاملة العديدة التي استخدمها كالمديد والبسيط والسريع . وكغيره من الدواوين والابداعات الشعرية يصطفي سعيد عقل لنفسه وتحت مسوغ النرجسية التي ذكرتها آنفا" أجمل خصائص الصور الشعرية التي بنتها انماط البيان والبديع كالاستعارة والكناية والتشابيه الخ....

فضلا" عن الرمز ايضا" الذي هو منصة الابداع السعقلي والتي كرسته الشاعر الرمزي الاول في العالم العربي وهي ايضا" تأثرت الى حد كبير بالرمزية الفرنسية .


 

4- مظاهر الحداثة : 

الرومانسية : رندلى ديوان ذو ملامح رومانسية وهذا طبيعي لدى سعيد عقل الذي تأثر بالفرنسيين في هذه المدرسة                                                                         وهي صفة حداثية وردت عند الكثيرين من شعراء عصره شوقي ابو شقرا، انسي الحاج يوسف الخال وغيرهم من الذين انخرطوا في مشروع مجلة " شعر " .

التصوف : لو محونا اسم سعيد عقل عن ديوانه رندلى في جل قصائده لنسبه الناس الى احد المتصوفة  . فكما يتماهى الصوفي في حب الاله تماهى عقل في امرأته بعفة وسمو ، فانظر قصيدته : نجوى الليل "  :                  يقول : طر بنا يا ليل طر انت الغرام ... يا هوى الضمة في وهم النيام ....

مناجاة عقل لليل يمكن اسقاطها على مناجاة الصوفي في حديثه الالهي ، حديث الروح للروح ، حديث الغرام المتنوع الدلالات فربما هو غرام الحبيب بالحبيبة وربما هو غرام المتصوف بالاله . فما للصوفي ألا يعيش في غابة اللوز مهد الصبا ؟ وما له الا يفرش سريره بالزنبق والياسمين ؟ وما له الا يضاحك حبيبته الرابية ؟! إنه التصوف الجميل الذي شكل صفة حداثية في عبوره المتنوع بين الرسالات السماوية كافةً وتلقفته ملكات المبدعين كشاعرنا اللبناني .

الحرية : فلا يمكن التصديق ان هناك حبا" صحيحا " كما ورد في رندلى الى درجة التذلل والعبودية للحبيب ما دامت الحرية مفقودة . ومن يصدق ان شاعرا" في الوطن العربي يمكن له ان يبدع الشعرارتقاء" في حب امرأة الى رتبة القداسة وهو مكبّل بالقيود الاجتماعية من حوله ؟ وفي منحى تقابلي آخر لا يمكن الاقتناع أن بمقدور هذا الشاعر نفسه  ان يجهر بحبه ساعيا" للارتماء في احضانها هادما" ما بقي من عزته ، سائلا" اياها ان تفر من ثوبها فتعرى ، دون ان ينعم بنعمة الحرية في داخله ومن حوله . انها الحرية كسمة حداثوية .

الرمز : وهو غني عن التعريف في ابداعات سعيد عقل وقد بانت ايحاءاته الكثيرة في مختلف دواوينه الشعرية ومنها رندلى . فأينما تمتعت في قراءة رندلى يتلازم الدال والمدلول في تبيان جمالية الرمز السعقلي ، الذي ولد في معاني الطبيعة والحب والجمال المندرجة في ديوانه .

التضحية والموت والانبعاث : يعلمنا سعيد عقل ان الشاعر مؤقت . فهو الجسد الطارىء في العالم ، وهو الفاني والزائل كغيره ، ولكنه هو الدائم السرمدي كقصيد وشعر . وهي علاقة ملتبسة متداخلة جسدها سعيد عقل في زمانه ، لكنه رفدها بروح الفداء فهو مزج ذاك القصيد بحبيبته التي تبعثه من لحده كلما باحت به . وغير ذلك قوله: 

سمراء ظلي لذة بين اللذائذ مستحيلة ...الخ... يسبقنا الممات اليه غيلة  : انها المتعة كبيرة التي قتلت الموت بظاهره السلبي وأحيت الشاعر وهو في انتظار الغد المنشود بلقاء سمرائه التي يشتاقها. وهي متعة اكدت المؤكد الشهير عن سعيد عقل وهو انه شاعر الحياة والفرح .

الغربة : انا وانت وان نبحرا ... انا وانت واليخت ....( القصيدة) الابحار مع الحبيبة في غربة اختيارية تنطلق من رؤية خاصة لمعنى الحب في تفاصيل الوجود والعالم من حولنا . وان كانت رؤية خاصة ذات وجه متألق لا تتفق بالضرورة مع الوجه المقابل لها أي القلق من المجهول كما عند الشعراء الحداثويين  . الا انها تبقى غربة . 

 

5 – خاتمة : شيد سعيد عقل صرحاً من جماليات الذوق الشعري في حقل دلالي واحد هو الحب : في المرأة . في الطبيعة . في الليل. في التصوف . وغيرها من سمات التجربة الشعرية في روعة كينونتها التي انبثقت منها مدرسة سعيد عقل في الشعر العربي . وهي مدرسة لم ينكرها أترابه ورفاقه من شعراء الحداثة الذين اعترف بعضهم بتأثره بها الى حد كبير . فضلاً عما تركته من ترددات عاصفة ايجابية وسلبية ايضاً لاحقة لدى الشعراء والدارسين وذوي الاختصاص والمهتمين بإبداعاته الفريدة المطلقة .