أخبار

"حكاية نخب مأزومة في لبنان"

د. رائد المصري

6 تشرين الثاني 2019 15:37

جئنا لمطالب حياتية ومعيشية وليس لإرتكاب خيانة ضدّ أحد: بهدوء بعد ثورة غضب...فتلك أزمة بين نُخَبٍ تعتَبر نفسها منزَّهة عن الأخطاء وهي بمصاف الآلهة وبين القواعد العامة أو الشعبية إن صحَّت الدلالة، وه

جئنا لمطالب حياتية ومعيشية وليس لإرتكاب خيانة ضدّ أحد:

بهدوء بعد ثورة غضب...فتلك أزمة بين نُخَبٍ تعتَبر نفسها منزَّهة عن الأخطاء وهي بمصاف الآلهة وبين القواعد العامة أو الشعبية إن صحَّت الدلالة، وهي مأساة في الوَعْي الجَمْعي العربي واللُّبناني لناحية الهُوَّة المتباعدة نتيجة الموروث التاريخي المُعقَّد في الدِّين والمذهب والطائفة، بعدم التنازل والتواضع والوقوف عند عقول هذه الجُموع التي إحتشدت في الساحات الشعبية في لبنان وعلى إمتداد أرضه، فإكتفَت هذه النُّخب الإعلامية والأكاديمية بأغلبيتها موقف المتفرِّج الحامل لمسطرة القياس من بعيد ناقلين مختبرات الدم من ساحة الى أخرى لمعرفة مدى الوَعْي والخيانة والعمالة وإجراء الفحوصات المِخبرية لأغلبية الشباب والشابات الجائعة والمُعْدمة التي إنتفضت لمعرفة ما يصلح أن يكون ثورة أو إنتفاضة أو عمالة للخارج والسفارة أو لتصفية الحساب السياسي...فمن أنتم..؟؟

يقيس هؤلاء المُتزلِّفون والمزايدون على المقاومة ومشروعها حركة الشعب الغاضب التي ملأت الساحات من منظورهم فقط في برجهم العاجي العالي، ويوزِّعون إتهامات شتَّى ويكِيْلون أوصافاً تَنِمُّ عن أحقاد ومرض نُخْبَوي متعفِّن ومُتَكلِّس، حيث شاهدنا البعض منهم على شاشات التلفزة وكأنَّ الله خلقهم وحدهم لتحرير فلسطين وقيادة المشروع المقاوم، وكلُّ ما عدا ذلك حتى لو طُرح على فراش الجوع موتاً وقهراً مؤجَّل النَّظر به حتى إنتظار نتائج الفحص في الوطنية..

الأساس في تبايننا مع مدعي الوطنية والمقاومة ونُخَبِها أنَّهم لم يتواضعوا وينزلوا لمخاطبة عقول هذه الناس والشباب المنتفضة من أجل تحصينها وتثبيتها على المسلَّمات الوطنية والوقوف عند خاطرها بما أصابها من جوع وحرمان وتعطيل من العمل بسبب سياسات التحاصص والمنافع والتسويات المشبوهة، فلا المقاومة بعد اليوم ولا غيرها قادرة على إجراء مقاصات وطرح أجندات تستند الى المشروع الإقليمي لحمايتها في لبنان(ونحن مع هذا الطرح) لكن شرطه الأمن والأمان لمصالح الناس والطبقات الفقيرة، وعدم تعريضهم لنهْش رجالات العولمة وأدوات البنك الدولي، فهذه تسوية فشلت وأثبتت عقْمَها وما زاد في ذلك هو الشعور الفوقي والإستعلائي تجاه هذه الطبقات المعدَمة حين إنتفضت وإستطال الأمر بهم عشرين يوم حتى أدركوا ومتأخِّرين ماهية هذه الإنتفاضة وعقول هؤلاء الشباب والشابات، فخرج الشارع من بين أيديهم ولم يعد بإمكان أحد أن يقدر تصويب رؤيتهم وأدلجتهم ناحية أهداف ثورية مقاومة..

إدراك التحوُّلات التي يمرُّ بها لبنان مهم وضروري، وكان واجباً التنبُّه لمنع دخول الجرثومة المذهبية التي أعلنت الإنتفاضة الشعبية طلاقها منها ولأول مرة في تاريخ لبنان، حيث خرج الرئيس الحريري تحت وطأة الضربات الشعبية العابرة للطوائف والمذاهب وصرخات أَلَمِ المحتجِّين من بوابات الحكومة المفْلسة سياسياً والسلطة المُفسدة، ليحاول الدخول إليها مجدَّداً من شباَّك التمذهب والإستنفار الفئوي الذي لا زال قطع الطرقات يشكِّل إحدى أهم آليات دعائمه وأخطرها على مستقبل لبنان، وهذا بدوره يُلْقي بالمسؤولية على هذه النُّخَب الإعلامية المزايدة من برجها العاجي التي تركت ساحات التغيير ولا تقترب إليها إلاَّ في ساعات متأخرة من منتصف الليل، علَّها تلتمس دوراً ما لها في المستقبل المنتظر.

تجسير الهوَّة والتنازل والتواضع يجب أن يكون سِمَة المرحلة الحالية والمُقبلة حتى لا نخسر أكثر، فالحراك الإجتماعي  والتقلُّبات المتسارعة يلزمها المتابعة لإستيعاب الأجيال الجديدة المفعمة بالقوة والعلم والنشاط والحيوية، من دون أن نطرح قبالتهم وجوهاً كالحة متكلِّسة تعيش تعقيدات العلم وحمل الشهادات وحسن الحديث، ومن دون تقديم رؤىً وأولويات لمجتمع فقد تقريباً كلَّ شيء ولم يَعُدْ أمامه إلاَّ إفتراش الطرقات وإقامة الإعتصامات والغَضَب...فهؤلاء بأغلبهم جاؤوا  لتحقيق مطالب حياتية ومعيشية وليس لإرتكاب خيانة ضدّ المقاومة.