علوم

التعديل الجيني للأجنة.. حياة أفضل أم مستقبل مرعب؟

19 شباط 2019 03:42

لماذا يحمل بعضنا عيونًا سوداء ويحمل البعض الآخر عيونًا بنيّة؟ ولماذا تختلف أطوالنا وصفاتنا الجسدية؟ وكيف تنتقل عيناك السوداوان إلى ابنك؟ ويعرف مجموع كل المادة الوراثية في الكائن الحي بـالجينوم 

لماذا يحمل بعضنا عيونًا سوداء ويحمل البعض الآخر عيونًا بنيّة؟ ولماذا تختلف أطوالنا وصفاتنا الجسدية؟ وكيف تنتقل عيناك السوداوان إلى ابنك؟

ويعرف مجموع كل المادة الوراثية في الكائن الحي بـالجينوم ، فكل المعلومات عنا موجودة في الحمض النووي؛ بدءًا من صفاتك الجسدية التي تحملها، ولون العينين، وشكل الشعر، نعومته أو تجدعه، وكذلك سمات سلوكية معينة، وتحدد أيضًا أمراضًا جينية ستصاب بها، وتنقلها لأولادك. لكن هل هذه الجينات يمكن تعديلها بصنع بشري؟ وبالتبعية تغيير الصفة التي تحملها تلك الجينات؟

ألا تجد ذلك مثيرًا؟ هل تريد أن تختار شكل طفلك؟ وطوله؟ وتحديد شكل أذنه ولون بشرته وعينيه؟ أو هل تُريد أن  تُسقط من على كاهلك الأمراض الوراثية التي يهديها لك أبواك؟ الأمر ليس بعيدًا، أنت تستطيع الآن اختيار صفات جينية بعينها وتعديلها، لكن المشكلة هي؛ أنه لا أحد قد لَعب هذه اللعبة من قبل.

عندما فك الإنسان شفرة الجينوم، استطاع الباحثون تحديد الجينات المسببة للأمراض، وبالتبعية فإن أي تغيير في هذه الجينات سيؤدي إلى تغيير في الجينوم.  من هنا جاء التعديل الجيني وهو إدخال أو إزالة أو تعديل في جزيء الحمض النووي، في موقع محدد منه، عن طريق ما يشبه المقص، وأي تغيّر في شكل الحمض النووي، سيتغيّر معه شكل الكائن الذي يحمله.

وقد استخدم العلماء تقنيات التعديل الجيني لبعض الحيوانات مثل الفئران، لأنها تملك الكثير من الجينات المطابقة للإنسان. فعلى سبيل المثال؛ يشترك الفئران والبشر في 85% من الجينات، وبتغيير جين واحد أو عدة جينات في الفئران، لاحظ العلماء كيف تتأثر صحتها، وبالقياس عليها يمكن التعرف إلى مدى تأثير هذا الفعل على صحة الإنسان.

الألعاب الجينيّة.. وسيلة دفاع عن النفس

مثلنا تمامًا، تقاتل البكتيريا الفيروسات منذ أن وُجدت في الحياة، ولذلك طوّرت نظام مناعة، يسجل مقاطع من الحمض النووي الفيروسي داخل الجينوم الخاص بها ويعرف بـ«الجينوم البكتيري».

وعندما يهاجم الفيروس البكتيريا مرة أخرى؛ يسهل التعرف على حمضه النووي وقطعه، عن طريق إنزيمات تعمل مثل المقص، وهذا ما يمنع الفيروس من التكاثر. ويتمتع ما يزيد على 90% من الجراثيم بمناعة معتمدة على «كريسبر»، وهو طريقة تعديل جيني أهدتها إلينا البكتيريا.

إن العالَم ليس أغرب مما نظن، لكنه أغرب مما يمكن أن نظن، وهذا هو مسار العلم. *عالم الوراثة جون هولدين

إن «كريسبر» الذي اخترعته أبسط الكائنات الحية، لتقضي على الفيروسات، يمتلك الإمكانية لتغيير حياتنا نحن البشر بالكامل، فـ«كريسبر» هو تقنية ثورية نستطيع عن طريقها تعديل الحمض النووي، أو بالأدق تعديل منطقة محددة في الحمض النووي، بشكلٍ ثابت، وتصحيح أخطاء لا نهائية.

وقد قُدّم لأول مرة عام 2013 بواسطة معمل «زانج»الصيني، وهو يعد تطويرًا لهندسة التعديل التي اكتشفها العالم الإسباني فرانسيسكو موخيكا، حين لاحظ الجهاز المناعي الميكروبي في عام 1992، لكن معمله لم يحظ بأي دعم مادي، يمكنه من إحداث ثورة في التقنية الحيوية آنذاك.

و«كريسبر» لديه الإمكانية أن يمنحنا حياة أفضل، إذ يمكن استخدامه للتعديل الجيني في كل الكائنات الحية، ليس الإنسان فحسب ولكن للنبات وللخميرة أيضًا.

وقد أصبحت تقنية التعديل الجيني بواسطة «كريسبر» شديدة النجاح؛ فهو يمكّن العلماء من حذف أي جين، أو فتح وغلق الجينات، ويبدو بفضله أننا اقتربنا جدًا من علاج آلاف الأمراض التي تسببها حدوث طفرة في جين واحد، ففي عام 2015 استخدم العلماء «كريسبر» لإزالة فيروس الإيدز من الخلية، وبعدها بعام فعلوا التجربة نفسها على مقياس واسع، لكن على الفئران المصابة بالإيدز. واستطاعوا إزالة 50% من الفيروس من كل خلايا الجسم. وفي خلال سنوات قد نستطيع بواسطة «كريسبر» علاج الإيدز بشكل كامل. ومن المتوقع أيضًا أن يكون لـ«كريسبر» القدرة على علاج السرطان؛ فالسرطان يحدث عندما تأخذ الخلايا في الانقسام بشكل جنوني، متخفية من الجهاز المناعي، ونستطيع بواسطة «كريسبر» إزالة الأمراض الوراثية المميتة وإنتاج طفل لن يصاب بها في المستقبل. لكن خلافًا للاعتقاد الشائع، فالتعديل الجيني لن يجعلنا أبدًا نمتلك قدرات خارقة.

لكل ما الذي تختلف فيه تقنية «كريسبر» عن وسائل التعديل الجيني الأخرى؟ يتميز «كريسبر» بأنه رخيص الثمن وسريع وسهل الاستخدام، أي باحث يمتلك معملًا يستطيع استخدامه، كما يوجد 40 ألف «كريسبر» في المعاهد والمعامل حول العالم، لدرجة أنه متاح على مواقع الإنترنت.

تعديل لحياة أفضل أم لمستقبل مرعب؟

يمكن القول بأنه قريبًا سيتمكن الطب من تصليح أجسامنا، وجعلنا نقاوم الأعداء التي لا نراها، وقد استخدم التعديل الجيني للبشر بالفعل في منع أو معالجة الأمراض، مثل «التليّف الكيسي» أو «السكّر». وهناك نوعان من التعديل الجيني: الأول استخدمه العلماء، وهن عبارة عن تعديل الخلايا الجسدية، ويستهدف خلايا معينة، ليعدّل مرضًا موجودًا بالفعل فلا ينتقل إلى الأبناء، لكن هذا النوع من التعديل، ينتهي بموت صاحبه.

أما النوع الآخر؛ فهو تعديل الخط الجنسي، أو الخط الإنتاشي، وهو عبارة عن تعديل الخلايا التي تنتج الحيوانات المنوية والبويضة والأجنة، وتصحح الجين المسؤول عن المرض. وهذه النوعية من التعديل الجيني، تتسبب في حدوث طفرات تنتقل للأجيال القادمة. كما أن البشر المعدلّة ستُغيّر النوع بالكامل لأن هذه السمات التي عُدلت ستُمرر لأطفالهم، وتُغير ببطء تجميعة الجينات. وهذا الثاني ممنوع قانونًا في معظم الدول، فهل نحن مستعدون لهذه الخطوة؟

ماذا سيحدث إذن؟ نحن لا نعرف ما نقبل عليه

حسنًا، التعديل الجيني قد ينهي الأمراض، ويعدّل من صفات المواليد، ويمنح الناس شبابًا دائمًا؛ فنحن الآن نعتبر في مرحلة تشبه مرحلة الكومبيوتر في السبعينيات، لكننا في المستقبل سندخل مرحلة  الحاسبات الآلية المحمولة والمتنقلة وسهلة الاستخدام أو هذا ما يرجحه العلماء.

لكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 حدث ما تخوّف منه المجتمع العلمي، فقد أعلن عالم أحياء جزيئية صيني يُدعى خه جيان كوي يزعم ولادة توأم بشري قام بتعديله جينيًا بشكل سري دون أن يخبر أحدًا أثناء العملية. هذا التعديل الذي من المفترض أنه تم في الصين، ممنوع قانونًا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي عدة دول أخرى، وذلك لأنه ينتقل للأجيال القادمة ويشكل خطرًا على الجينات الأخرى.

ويتفق معظم المجتمع العلمي على أن تجريب هذا النوع من التعديل خطير للغاية، إذ أن أثره لا يمكن التنبؤ به. لكن الباحث الصيني لم يعبأ بهذه القوانين والتشريعات، وذَكر أنه قد أخضَع سبعة أجنة للتعديل الجيني أثناء عملية التخصيب، نتج عنهم حالة حمل واحدة. وأضاف أن هدفه ليس منع أو شفاء المرض الوراثي، لكنه يحاول أن يُعطي الناس القدرة على مقاومة الإصابة المستقبلية بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز). وذكر الباحث أنه قد أجرى تجارب على الفئران والقرود والأجنة لمدة سنوات. وقد اختار تعديل جين نقض المناعة المكتسبة لأن الإصابة بالإيدز في الصين شيءٌ كبير. وقد عطّل الباحث جينًا يسمى (CCR5)، يسمح بدخول فيروس الإيدز إلى الخلية.

وقد أعلن العلماء رفضهم لما حدث، أو ما ادعى الباحث أنه حدث، ويأتي الرفض من منطلق أن التجارب على البشر غير مقبولة أخلاقيًا، خاصةً في الخفاء دون إشراف من الباحثين. ولأن هذه التجارب في الحقيقة ليست ضرورية للحياة، إذ أنه منع مرضًا كان من الممكن ألا يحدث من الأساس، وذَكر آخرون أن «ما حدث غير ناضج، وأننا نتعامل مع شيء مهول وهو الجينات»، وأن ما فعله كان يتطلّب موافقة من العلماء قبل شهور من ولادة التوأم.

مبدأ الاعتراض أيضًا لأن هناك بالفعل وسائل أسهل لمنع الإصابة بالفيروس، كما أن البيانات التي قدمها الباحث الصيني يمكن أن تُحدث تغييرات جينية غير مقصودة، وآثارًا صحية غير معلومة العواقب. وقد يواجه الباحث أحكامًا بالسجن بسبب هذه التجربة.

«كريسبر» يستطيع تغيير البشر بالكامل

تبدو القصة كأنها خيال علمي، لكن الخيال العلميأصبح حقيقة، تقول المهندسة الجينية جينيفر دودونا إحدى باحثي «كريسبر» عن التعديل الجيني للمواليد في الفيلم الوثائقي explained,designer DNA:  «هذا إغراء علينا أن نتعامل معه، فهذه التقنية ليست مستعدة بعد لتعديل الأجنة جينيًا، لكنها قريبة جدًا». إذ إنه إذا سنحت لنا فرصة أن نُعدّل أطفالنا، بالطبع ستكون الاختيارات لا نهائية، إذ سنختار ما نظنه الأجمل، والأقوى، ويا حبذا لو استطعنا إزالة الأمراض الوراثية، التي قد يُصابون بها.

أما أكثر ما يسيطر على البشر فهو الإصابة بالشيخوخة، إذ يفقد ثلثا الأشخاص من كل 150 ألف شخص حياتهم، لأسباب تتعلق بالسن، ويمكن القول بأنه لا يوجد علاج واحد للشيخوخة، لأنها في الحقيقة ليست مرضًا، بل هي القابلية للإصابة بعدة أمراض. فماذا تستطيع أن تفعل تقنية «كريسبر» أمام الشيخوخة؟

هناك بالفعل جينات مرتبطة بالشيخوخة، وربما مستقبليًا بواسطة التعديل الجيني وبعلاجات أخرى، قد يستطيع الطب تقليل تأثير الزمن على حياة الإنسان، كما أننا قد نستطيع استعارة بعض الجينات من الحيوانات المقاومة للشيخوخة مثل الـ«لوبستر» الذي يعيش 100 عام.

هل استخدام التعديل الجيني للأجنة أخلاقي؟

لا نعرف ماذا سيحدث إذا ما تمت ولادة بشر معدّلين بالفعل، أو إذا ما سُمح بذلك، خاصةً وأن التعديل الجيني للأجنة هو حماية من مَرض مستقبلي لم يحدث بعد، أو تغيير في الشكل وهو أمر غير ضروري أيضًا، فكيف سيكون شكل المستقبل حينها؟ هل البشر غير المعدّلة، مثلنا الآن ستكون مقبولة في العالم المُعدّل المستقبلي؟ أم سيتم نبذها لأنها ليست بنفس الكفاءة؟ تمامًا مثلما تُنهي بعض الأمهات الآن الحمل بعد إجراء اختبارات جينية للجنين، والتعرف على وجود بعض الأمراض أو العيوب.

وأبسط مثال على ذلك هو متلازمة داون، أكثر العيوب الجينية شيوعًا. ففي أوروبا تُنهي 92% من الأمهات اللواتي يخضعن لاختبارات ما قبل الولادة حملهن، إذا رجحت الاختبارات أن الجنين قد يكون مصابًا بالمتلازمة. كذلك من سيحدد أن الطفل المعدّل الذي يمتلك العيون الملونة والعضلات هو الأفضل؟ وماذا لو أصبح التعديل بأيدي الأغنياء فقط؟

النقطة الأخرى هي أن «كريسبر» يستطيع إزالة المرض، لكن ربما ينتج بعض الآثار الأخرى غير المرجوة، فهل نحن مستعدون لذلك؟ نحن لا نعرف الكثير عن التفاعل المعقد بين جيناتنا، لتجنب سلسلة الحوادث المترتبة على بعضها والتي لا يمكن التنبؤ بها. وهذا المستقبل المشرق للبشرية له جانب مظلم أيضًا. تخيل مثلا ماذا ستفعله دولة مثل كوريا الشمالية إذا ما سُمح بالتعديل الجيني للأجنة؟ مَن يستطيع أن يمنع أي نظام ديكتاتوري من تعديل بشر لإنتاج جنود بقوة خارقة؟