علوم

«الجنس يُفسر كلّ شيء».. كيف أثارَ فرويد جدل العالم؟

3 آذار 2019 04:06

انتبه إليَ، نحن الآن في الألفية الثالثة، أنت تُعاني من مشكلة نفسية بعينها، أو رُبما مشاكل حية لا تستطيع التعامل معها، ولا تعلم منها سوى ضجرك وكآبتك وانعزالك عن الآخرين. هل فكرت بشكلٍ جاد في الذهاب إلى

انتبه إليَ، نحن الآن في الألفية الثالثة، أنت تُعاني من مشكلة نفسية بعينها، أو رُبما مشاكل حية لا تستطيع التعامل معها، ولا تعلم منها سوى ضجرك وكآبتك وانعزالك عن الآخرين. هل فكرت بشكلٍ جاد في الذهاب إلى طبيب نفسي؟

– لا لم أفكر مطلقًا، تلك الأعراض كانت تثير تساؤلات من حولي عن سلامة عقلي، وربما ساهمت أيضًا في فقدي لأصدقائي ووظيفتي.

– إذًا، لماذا لم تذهب لطبيبك النفسي ولا تُلق بالًا لمن حولك؟ وأنت من أقنعت ابنك عن قريب بالذهاب إلى طبيب نفسي للتخلص من بعض مشاكله النفسية؟

– بالطبع اختلف الزمن، مع الوقت اختلفت نظرتنا للأطباء النفسيين حتى الأطباء النفسيين ذاتهم، لم يتوقعوا أن يذهب إليهم المرضى مثلي بدونِ حذرٍ، أو خوفٍ كما كان.

يُشكل حوارنا هذا مع مواطن مصري خمسيني نقطة بداية جيدة نود الانطلاق منها في هذا التقرير للحديث عن التحليل النفسي، وعن مدى معرفتنا بعلم النفس عمومًا.

ماذا تعرف عن علم النفس؟

كلمة علم النفس، التي تعني (pscyche) باليونانية، أو الحياة والتنفس والروح، وقد كانت نشأة هذا العلم عبر اتحاد الفلسفة مع علم الأحياء، ومهمته تشخيص، وتحديد قضايا الصِحة العقلية للأشخاص.

ظهر بعد ذلك علم مستقل، بإنشاء أول معمل لعلم النفس التجريبي في ألمانيا على يد ويليم فونت عام 1879، بدأ فونت بتدريب الأشخاص، وكان رأيه أن التدريب على تحليل المشاعر قادر على تحديد العمليات العقلية المُسببة لها.

تفرعت بعد ذلك ما يُسمى بمدارس علم النفس، لفروع مختلفة، مثل مدرسة التحليل النفسي، لرائدها سيجموند فرويد المعني به هذا التقرير، بالإضافة إلى:

– المدرسة البنائية.

– المدرسة الوظيفية.

– المدرسة السلوكية.

– المدرسة الإنسانية.

– المدرسة المعرفية.

مدرسة التحليل النفسي «علم الشخصية»

أرادت هذه المدرسة لنفسها واقعًا آخر، خارج المعمل، وحسابات الشعور، وقامت على أساس واضح، يرتكز على قاعدتين، أولًا: الطاقة النفسية المُستمدة أساسًا من الطاقة الطبيعية الموجودة بالكاد في الطبيعة، وثانيًا: الحتمية النفسية، التي تعتبر أن لكل نتيجة سببًا، والعكس، فلا يوجد سلوك يقوم به الإنسان إلا وله سبب، حتى الهفوات لها دلالة ومعنى عند صاحبها؛ حتى لو كان لا يشعر بذلك، أو يعتقد به، حسب تلك المدرسة.

«إن الكائن البشري الصغير ينتهي صوغه، أو تكوينه غالبًا في السنة الرابعة، أو الخامسة من عمره، ثُم يفصح تدريجيًّا عن الكائن الخبيء في نفسه خلال السنوات التالية من حياته». *سيجموند فرويد

بالتالي اهتمت هذه المدرسة بجوانب جديدة لا يعلمها أحد، مثل تأثير الدوافع اللاشعورية في الأشخاص سواء الأسوياء، أو من يُطلق عليهم فرويد «الشواذ».

اهتمت هذه المدرسة بتأصيل دور الأحلام، وتأويلها في احتياجات الأشخاص ورغباتهم، وتعلق الشخص بوالديه (عقدة أوديب)، بالتالي أرادت هذه المدرسة الخروج من المعمل، وبناء الأمل على الأشخاص أنفُسهم، ووضع حجر الأساس في الغريزة الجنسية كمُتحكم أساسي في دوافع، ورغبات واحتياجات الفرد في الحياة، وهو الجزء الذي يعارض بعضه الفروديون الجُدد.


شبّه رائد هذه المدرسة، سيجموند فرويد النفس البشرية بجبلٍ من الجليد يطفو فوق سطح الماء، وهو يُحاول تفسيره.

فمن يكون هذا الرجل الذي حَوّل نظر العالم لموضوع بهذه الأهمية والخطورة؟

من يكون سيجموند فرويد الذي أثار جدل العالم؟

ولد سيجموند شالمو فرويد في مايو (أيار) 1856 لعائلة يهودية في مدينة فريبورج بمقاطعة مورافيا بتشيكوسلوفاكيا الحالية، وانتقلت العائلة بعد ذلك لألمانيا، حين كان طفلًا في الثالثة من عمره، ثم إلى النمسا (فيينا تحديدًا)، التي قضى بها الجُزء الأكبر من عُمره.

لوحظ عليه منذ صِغره الذكاء الشديد، لذلك كان الطفل المُدلل والأهم لوالديه، لأنه وُلِدَ لعائلة فقيرة نسبيًّا، فكانت خطتهم أنه بتفوقه الدراسي، سيُصبح أمل الأسرة في الخروج من شقائهم، بالتالي الجميع في صمت طالما فرويد الصغير في غُرفته، أيضًا مُنع على إخوته مثلًا دراسة الموسيقى؛ لأن ذلك كان يُزعجه.

قبل الجامعة خطط فرويد لدراسة القانون، لكنه وجد أن دراسة الطب تجعله قريبًا أكثر من البحث العلمي، فسرعان ما قرر دخول كلية الطب، وكانت لفرويد حينها خطة لتحقيق أحلامه الشخصية، وربما جاء ذلك، على حساب أحلام الأسرة التي توسمت فيه، وانتظرت منه تحسين وضعها المادي.

لم يطمح فرويد لأن يكونَ مُجرد طبيب ذي دخل مرتفع، يحقق أحلام أسرته بالترقي، بل كانت غايته القصوى منذ البداية معرفة اللغز البشري، ومثل الجميع لم يعرف فرويد في البداية ماذا يُريد تحديدًا، وبعد المرور الذي يحدث في السنوات الأولى على جميع أقسام الطب في الجامعة، انجذب فرويد نحو التشريح.

زاد اهتمامه بمجال التشريح، ونشر عددًا من البحوث العلمية في مجال التشريح، واستحوذت نظريات علم التشريح على عقل فرويد، لكنه وجد نفسه في النهاية مُجبرًا على الدخول في مجال يستطيع من خلاله الحصول على المال، وتخصص بعدها في مجال الاضطرابات العصبية.

عمل فرويد في البداية مع صديقه النمساوي بروير، على الفكرة الرئيسية للطب النفسي آنذاك «التنويم المغناطيسي»، تحت إشراف دكتور شاركوت، الأستاذ الرئيسي لفرويد وصديقه أيضًا، وهو من أشعل له فكرة احتمال وجود اضطراب جنسي ما لدى بعض مُصابي الأمراض العصبية.

من خلال حكي المرضى لأحلامهم، ربط فرويد بين نفسية المريض أو اضطراباته، بما يحتاجه لتجاوز مشاكله، كان ذلك في عام 1900، وهي الفترة التي وضع فيها كتابه الذي أثار جدلًا كبيرًا آنذاك «التحليل النفسي». نذكر هنا أن هذا الكتاب كان يُمكن أن يُقرأ في 1899، لكن فرويد أراد أن يكون الكتاب حديث المئوية الجديدة.

بعد فترة تجاوزت الـ15 عامًا من العمل المشترك بين فرويد وبروير، ونشر أبحاثهما المشتركة عن الهيستيريا، جعلهم ذلك يبحثون أكثر في العوامل النفسية المُسببة للهستيريا. الهستيريا تؤدي للانحلال العقلي، ويقول بروير إن سبب ذلك هو انقطاع الصلة بين حالات النفسية الشعورية المُختلفة، ويقول فرويد إنها نتيجة صراع بين الميول، وتصادم الرغبات، وبهذه الأعراض يُدافع المريض عن دوافعه المكبوتة داخل شعوره، وبما أنها تُعتبر دوافع مرفوضة فإنها تحاول أن تُخرج ذلك بطريقة مُختلفة، وهو ما يسمى بالأعراض الهستيرية.

لم يتوقف الخلاف عند هذا الحد، فرويد صار يُعلن موقفًا جديدًا سيجعله حديث الجميع، الأطباء وغيرهم، حيث أرّجع السبب الأساسي في الهستيريا للغريزة الجنسية، ما جعل الأمر بينه وبين صديقه القديم يتخطى الخلاف حتى وصل لقطع الصلة بينهما، وشُنّت الحرب على فرويد من الجميع.

الجنس.. مفتاح اللغز

«عزيزي يونغ، عاهدني على عدم التخلي عن نظرية الجنس أبدًا، فذلك الأمر بالغ الأهمية، أترى، يجب أن نجعل منه عقيدة وحِصنًا لا يُهد». ويُضيف يونغ: «قال لي ذلك بانفعال عظيم، ونبرة أب».           *من وصية فرويد إلى تلميذه وخليفته بعد ذلك، كارل غوستاف يونغ.

يُرجع فرويد الأفعال العصبية للعامل النفسي، بدلًا من العوامل العضوية، بالتالي اعتبر أن الأحلام أيضًا جزءًا أساسيًّا في اللعبة، واعتبر الحلم نزوحًا لأفكار خُلقت في المهد، فالأحلام بالنسبة لفرويد كانت بنفس أهمية الواقع، وكلاهما يعبر عن الاحتياج الجنسي للإنسان.

فتح فرويد بمفرده أبواب عالم جديد لم يدخله أحد من قبل، واكتشف من خلال أبحاثه علاقة بين الغريزة الجنسية للفرد، وعلاقتها بالهستيريا، ما جعله يُعمم الأمر أكثر، ويثق بنظريته أكثر، مُتجاهلًا كل مُعارضيه، فالغريزة الجنسية عنده هي السبب الأساسي.

أن يبدأ المريض بسرد كل ما يريد بحرية تامة، وهو ما أسماه «الترابط الحر»، أو أن يرفع الرقابة عن أفكار، وذكريات المريض، وتفسير الأحلام، كمصادر للرغبة الصادقة عن احتياجات اللاوعي، ذلك ما اتفق الجميع تقريبًا مع فرويد عليه، لكن الخلاف الرئيسي لفرويد أنه اعتقد بوجود نظام تفسيري مكتمل يُمكن من خلاله تفسير الأفعال والسلوكيات، وكان على يقين بعد خلافه مع الجميع، أن بداية هذا النظام، ومفتاح فهمه هو الجنس «الليبيدو»، السبب الرئيسي لأي فعل يقوم به الإنسان من وجهة نظره.

الليبيدو، هي في الأصل كلمة يونانية تعني التماس لذه العيش عمومًا، لكن فرويد استخدمها كالتماس إشباع، أو التماس لذه الحياة الجنسية فقط، وهو بذلك أراد أن يوسع مفهوم النشاط الجنسي، حتى يشمل ضروب النشاط في الطفولة الأولى.

أيضًا اعتبر فرويد النشاط الجنسي، يُعبر عنه عملية التمصص (مص الشفتين طلبًا للذة)، لذلك فهو يعتبر أن اتخاذ الأم كأول موضوع للحب، هو مجاز عن ثديها بالتحديد، ومُرتبط بالتماس لذه جنسية طفولية؛ وهي التي تخلق المجموعة المُعقدة من العواطف التي نُسميها عقدة أوديب، من وجهة نظره.

إذًا بالنسبة لفرويد، فالصراع الذي يحدث لأي مريض نفسي، هو صراع بين متطلبات الأنا، والمتطلبات، أو النزعات الجنسية للفرد ذاته، متخذة أشكالًا وسلوكيات مُختلفة، وإذا حاول الفرد تخطيها والتغلب عليها، فهو يُخرجها إلى عالم الشعور، وإذا لم يستطع، اتخذت أشكالًا، وأفعالًا مختلفة.

  كيف أثر فرويد في العالم؟

تحمس لفرويد طلاب كثيرون، أصبحوا له مريدين، وعاملوا أفكاره الجريئة بنوع من التقديس، ووقروه، واجتهدوا في استكمال الطريق الذي بدأه بقلب المفاهيم التي تَخُص المرض النفسي، وأسبابه، وعن الإنسان عمومًا، رأسًا على عقب.

الأدباء والعلماء الذين آمنوا بنظريته، ساهمت في تغيير وجهة نظرهم للأشياء، بالتالي الإبداع بأرضية مختلفة عما كانوا عليه  قبل صك نظريته، ورُبما نعتبر أن تأثير فرويد في الأدباء والعلماء في عصره، كان شبيهًا بتأثير كارل ماركس في السياسة، والاقتصاد، والفلسفة؛ كلاهُما جاء  ليهدم المعبد ،ويُعيد بناءه كما يريد.

خرجت مدارس فنية عديدة انطلاقًا من إيمانهم بفرويد، مثل السريالية والتجريدية، مُستخدمين الأحلام مرة أخرى كعملية للسرد، أو رمز عما بداخلنا، واعتمدوا على تصوارات الخيال بدون رقابة مُسَلَطة عليه.

نقاط الخلاف مع فرويد

كما أسلفنا كَثُرّ أتباع فرويد من مختلف المجالات، كما زاد خصومه أيضًا، لكن ولأننا جميعًا محاطون بالزمان والمكان اللذين أحاطا بميلادنا، فهناك بعض النقاط التي أخذها خصوم فرويد عليه، حتى بعد موته، وتطور علم النفس، ومنها:

  • اعتمدت غالبية نتائج فرويد على ملاحظاته المُتعلقة أساسًا بأشخاص مضطربين عاطفيًّا، وهو ما يعتبره مُعارضوه أمرًا غير ملائم، فهُناك شخصيات عادية، وسليمة أخرى من وجهة نظرهم، وهو ما يدحض تعميمات فرويد من وجهة نظرهم أيضًا.
  • الوقت الذي ظهر فيه فرويد كان الحديث عن الجنس عمومًا محظورًا جدًّا، لذلك وجدت نظريته بيئة خصبة، حيث مُعظم المرضى يُعانون من مشاكل جنسية، ويلاحظ مُعارضوه الآن أنه برغم أن مشاكل الجنس تقل مع الوقت، إلا أن المرض الذهني ما يزال موجودًا بكثرة.
  • وضع فرويد فرضيات عامة لم يُفسرها، وهو ما جعلها غامضة حتى على مُريديه؛ مثلًا ما هو السلوك الذي يشير إلى أن الطفل في مراحله الأولى، كما يقول فرويد، يحدث له تطور نفسي جنسي؟

في النهاية هناك الكثير من الملاحظات التي دونها معارضو نظرية فرويد عليه، ولكن الشيء الذي يؤكده الجميع، أن نقد آرائه نفسها عملية صعبة، لأنها تحتاج لدراسة مراحل نمو الشخصية، وهو ما يتطلب وقتًا كبيرًا واستثنائيًّا للجميع.

رسالة أخيرة

«في وسع المرء أن يُكَون لنفسه عن التحليل فكرة أشمل من تلك، إن قام بها على يد مُحلل ماهر». *سيجموند فرويد

فرويد الذي عارض العالم، وأراد من الجميع أن يرفعوا السُلطة عن خيالهم وأحلامهم، وهو الذي آمن بطريقة السرد كحل أمثل للخروج من ضروب الكبت، والمرض النفسي، كان أول الخائفين من ذلك، بحسب رواية تلميذه يونغ.

يقول كارل يونغ، خليفة فرويد: حلم فرويد حُلمًا، وفسر بعدها سبب حلمه هذا، لكن يونغ لم يصدق، أو لم يقتنع بما برَره فرويد له؛ كان تفسير يونغ الأكثر منطقية على ما يبدو، وقال وقتها إنه بإمكانه أن يُفسر أفضل من ذلك إن حكى له فرويد أكثر عن حياته الخاصة، وكانت صدمة يونغ الكبيرة من رد فرويد حينها، حيث رمقه بنظرات شك وغرابة، وقال: «لكنني لن أخاطر بسلطتي». يقول يونغ: «في هذه اللحظة تحديدًا خَسِر كُل سُلطَته».