قاعدة عين الأسد الأمريكية في الأنبار عقب الهجوم الإيراني

تقارير وحوارات

منهجية تقطير الاعتراف بالخسائر.. ليلة قصف قاسم سليماني الجولان

يوسف فارس

22 شباط 2020 19:47

حتى أنصار محور المقاومة، لا يتعاملون بثقة مع ما يؤكده زعمائهم، هم ليسوا مدانين بالضرورة، إذ أن العقل الجمعي العربي كله مسكون بوهم الدعاية الأمريكية، أو ما يسميه أندور همند : "الاحتلال الأمريكي للعقول

حتى أنصار محور المقاومة، لا يتعاملون بثقة مع ما يؤكده قادتهم، هم ليسوا مدانين بالضرورة، إذ أن العقل الجمعي العربي كله مسكون بوهم الدعاية الأمريكية، أو ما يسميه أندور همند : "الاحتلال الأمريكي للعقول العربية"، وهو توصيف مقنع لا بد أن تتبناه حين تنتهي من قراءة كتاب: "كيف ينظر العرب لأمريكا، بحث في أسباب الكراهية"، النظرية العربية التي تحوي في داخلها تناقضي النقص، فهي من جهة، تحاول محاكاة النمط المعيشي الأمريكي، وتفضل المنتجات والأفلام والأطعمة، وحتى الجامعات الأمريكية في التعليم، في مقابل متناقضة العداء، الذي لا يقبل بأي شكل من الأشكال، الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ودعم "واشنطن" المطلق لدولة الاحتلال، هذه الثنائية العجائبية، التي طرحها "همند" وناقشت بالعموم كيف تتعلق الطبقات الوسطى بالنموذج الأمريكي، تعكس مستوى الاندلاق العربي في تصديق الرواية الأمريكية، وإن كانت فاجرةً في الكذب، ولعل هذا الموروث، هو السحر الذي تركه الإنتاج الهوليودي في المخيلة العربية، التي تتعاطاه منذ عشرات السنين بنهم غير مفهوم، ويبدو لافتاً هنا أن المشاهد العربي يحلل بعين نقدية ومنطقية جداً الانتاج البوليودي الهندي، ولا يقبله بوصفه مغموراً بالمبالغات اللاعقلانية، ولكنه يشتعل حماسةً مع البطل الأمريكي الخارق، الذي لا يمكن أن يقتل، أو يهزم، أو تنفد ذخيرته !

هذه الفكرة، ناقشها الكاتبان نيثان غردلز ومايك ميدافوي، على نحوٍ فريد في عمقه وشواهده، ففي كتاب "الإعلام الأمريكي بعد العراق, حرب القوة الناعمة"، أفرد الكاتبان مساحة واسعة للحديث عن شواهد الاحتلال أمريكي للعقول، بدءا باحتكار تقديم صورة الهنود الحمر، الذين جسدتهم هوليود في أفلامها، وحوشاً آكلة للحوم البشر وشاربة للدماء، في حين، جاء الأمريكي الأبيض الأنيق، لكي يمدنّها ويلبسها ثوب الحضارة والرقي، فتمردت عليه، وأضطر لقتالها وابادتها، وصار المشاهد العربي يتفاعل مع تلك الصورة، ويتمنى الانتصار للأمريكي، قبل أن يكتشف حين كبر، أن شعوب العرب، هم الهنود الحمر أنفسهم! .

وصولاً إلى تعميم صور نمطية ثابتة عن الأحداث السياسية المعاصرة، صور لا يمكن أن تبرح العقول رغم كذبها، مثل الصورة (العفوية) التي صنعت بعناية لمشهدية الاحتلال الأمريكي للعراق، وكيف استقبل العراقيون الجيش بالهتاف، ووقفوا على جانبي الشوارع مهللين سعداء بحضورهم، قبل أن يرافقوهم في طقوس اسقاط تمثال صدام حسين، وحشو علم الولايات المتحدة في فمه !

هذه الهيمنة الناعمة هي التكتيك الأفيوني الذي تعاملت معه الولايات المتحدة في تدمير خصومها معنوياً، وفي تقديم الرواية التي يتعاطاها العرب تحديداً وكأنها وحي سماوي، وهي الاستراتيجيا التي تسبق عجلات الأبرامز، ولا تتوقف بعد انتهاء طلعات الـ
B52  وهبوطها في هنغاراتها، وهي الأسلوب الذي استخدم في كل موَاطِن المواجهة،  من فيتنام إلى كوريا الشمالية، إلى فنزويلا وكوبا وإيران ولبنان واليمن والعراق وسوريا، وحتى الصين.

وبما سبق ذاته، استطاع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن يمارس نوعاً نادراً من الكذب الفاجر المفضوح على العالم، حين أعلن عقب الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد في الأنبار، في الثامن من شهر يناير الماضي، أن حصيلة العملية التي رد فيها الحرس الثوري الإيراني على اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني هي "الصفر"، حينها، وقف العالم أمام مجموعة من المفارقات المنطقية، إذ أنه ليس من الممكن أن لا يتسبب 13 صاروخاً من طراز "قيام" التي تحمل رأساً متفجراً زنته 645كيلو غراماً، أي ما مجموعه ثمانية أطنان و 385 كيلو غرام من المتفجرات، بإحداث إصابة واحدة !


اقرأ أيضاً: إيران: أمريكا تكبدت خسائر فادحة بعد ضربة عين الأسد وستعترف بها قريبا

الاعلان الأمريكي الذي استطاع تسخيف الرد الإيراني، وجاراه في ذلك، جوقة كبيرة من الإعلام الخليجي والعربي، كان في مقابله إعلان إيراني عن قدر الخسائر الأمريكية، بدا أنه يحمل مبالغة كبيرة، "ثمانون جندياً أمريكيا قتلوا وأصيب المئات"، كل تلك المطاحنة في صراع الروايات، التي انتصرت فيها الرواية الأمريكية بلا شك، سبقت المرحلة الأولى من بدء الاعترافات الأمريكية بحجم الخسائر البشرية، ودفعت الشارع العربي المسكون بمسخرة "المسرحية الأمريكية الإيرانية" التي يمثلونها على (العرب)، إلى أن يبالغ في تقديم تفسيرات سوريالية للحدث.

 وهنا يبدو من الطريف والمبكي في آن، الحديث عن مستوى الاستهزاء الأمريكي بالعقل العربي، الذي لم يخجل في تقديم منحنى متصاعد لعدد الاصابات، ظهر فيها، وكأن الصواريخ الإيرانية وباء معدي، ينتشر وتزيد عدد حالات الإصابة منه بين الفينة والأخرى، فيما تتداول الوكالات الإعلامية أخبار إصابات "عين الأسد" بكثير من البرود، دون طرح أي علامات استفهام، عن الحصيلة التي بدأت من صفر خسائر بشرية إلى أن وصلت إلى 110، بتوصيف طبي واحد يسميه البنتاغون "ارتجاج دماغي" !

 تقطير الاعتراف بالخسائر

بدأ الاعتراف بخسائر الهجوم في يوم 17 يناير، أي بعد اثنتي عشر يوماً من الرد الإيراني، حين أعلن البنتاغون أن 11 جندياً أمريكياً أصيبوا بارتجاج دماغي نتيجة القصف، ثم بعد خمسة أيام من تاريخه 22/يناير، اعترف الرئيس الأمريكي بوجود إصابات، وقدم تصريحاً قصده مستهتراً ليتناسب مع دعاية تسخيف الرد الإيراني، حين قال: أعتقد أن هناك اصابات لكنها ليست خطيرة، يمكن أن يكون الجنود قد أصيبوا بالصداع أو ما يشبه ذلك".

وبعد يومين من تصريح ترامب، أي في تاريخ 24/1، صرّح البنتاغون أن عدد الاصابات من الهجوم بلغ 34 جندياً، قبل أن يقدم العداد الأمريكي قفزة كبيرة في 10/ فبراير، وقت أعلن أن عدد الاصابات بلغوا المائة إصابة، وفي 11/ فبراير، وصل عدد الاصابات إلى 109 اصابات، فيما وصل التقطير في إعلان الخسائر في آخر حصيلة له، باعتراف البنتاغون الأمريكي صباح اليوم السبت، بارتفاع عدد الإصابات ليصل إلى 110 مصاباً.

المحزن أن الجمهور العربي الذي تبنى الرواية الأمريكية الأولى، لم يُجهد نفسه في إعادة تحديث معلوماته حول الخسائر، وهكذا سيكون من اليسير أن تُظهر الولايات المتحدة ما تخفيه من جبل جليد خسائرها في الهجوم، وسيحتفظ العقل الجمعي للعرب، بصورة الجندي الأمريكي الذي لا يقتل، ولا يصاب، ولا يهزم بطبيعة الحال.

معطيات يفندها المنطق

- بلغت "طهران" بغداد بأن ثمة هجوم سيستهدف قاعدة ما في الأراضي العراقية قبل ساعات من بدئه، عملاً بالأصول الدبلوماسية التي يجب أن تحترم، وربما يكون الحديث عن أن القوات الأمريكية تلقت تحذيراً من أطراف عراقية بوجود نية إيرانية للقيام بعمل عسكري رداً على اغتيال الجنرال قاسم سليماني على الأراضي العراقية، أمراً ورداً، لكنه من المحال،  أن يكون الإيراني الذي أخفى عن أجهزة دولته الحكومية الموعد الدقيق لبدء رده، فضلاً عن طبيعته، وتسبب ضعف التنسيق هذا، بكارثة اسقاط الطائرة الأوكرانية، أن يفصح للأطراف العراقية بكل طيبة وبساطة بالقاعدة المستهدفة، أو بشكل الاستهداف، مع العلم، أن الخيارات أمام الصواريخ الإيرانية واسعة، إذ تضم الجغرافيا العراقية قرابة 12 قاعدة تسيطر عليها القوات الأمريكية وقوات التحالف بشكل كلي ( مطار القيادة العسكري في الموصل، رينج في كركوك، عين الأسد والحبانية في الأنبار، قاعدة بلد الجوية في صلاح الدين، فكتوري والتاجي في بغداد، التون كوبري في كركوك، وقواعد سنجار وأتروش والحرير وحلبجة في كردستان العراق)  ناهيك عن عدد لا بأس به من القواعد العراقية التي تتواجد بها قوات أمريكية.

- يفنّد الافتراض السابق نفسه أيضاً، حتى ولو سلمنا جدلاً بأن القوات الأمريكية استطاعت الحصول على معلومة استخبارية تفيد بأن القاعدة التي سيتم قصفها هي قاعدة عين الأسد، فإنه من المعلوم، أن الاجراء العسكري الذي يمكن اتخاذه في حالة توقع الهجوم، هو الاختباء، والاختباء فقط، إذ أن اخلاء القوات من قاعدة ضخمة كهذه يحتاج إلى معدات نقل خاصة، وربما عشرة رحلات جوية لطائرة شحن كبيرة تماثل طائرة أنتونوف أن-225 الألمانية العملاقة، فهل من الممكن المجازفة بالإقدام على إجراء كهذا، في الوقت الذي تنتظر فيه القوات هجوماً في أي لحظة؟

- يشير حجم الجهوزية الإيرانية في التعاطي مع ارتدادات الهجوم، إلى أن الحرس الثوري كان مستعداً بشكل جدي لسيناريو الحرب، وهو وضع كافة القواعد الأمريكية في المنطقة في مهداف نيرانه، ولعل خطأ اسقاط الطائرة الأوكرانية، والكواليس التي تزامنت مع اتخاذ قرار اطلاق صاروخ المضاد الجوي في 10 ثواني نحو الطائرة، التي ظنها ضابط الرادار صاروخ كورز أو توماهوك، سيضرب أحد الأهداف الحساسة، تعطي مؤشراً إلى ما كان يتوقعه الإيرانيون من حجم الخسائر البشرية التي ستحدثها الضربة، تلك، التي يمكن أن تقود إلى حرب.

 

ليلة قصف قاسم سليماني الجولان

سليماني، بسليماني يذكر، هو الحاضر الذي لا يغيب، حين يجبرنا تحليل الرد على اغتياله، إلى استحضار أفعاله الكبيرة التي سبقت رحيله المدوي، هنا، يحدثني شخص مطلع، أنه وعقب قصف محور المقاومة لـ مواقع عسكرية إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، في 10/ 5 / 2018، ليلتها، كان سليماني يبدأ الهجوم بـ 50 صاروخاً دفعة واحدة، ويتابع انطلاقها من مكان ما في دمشق، نحو نقاط تجسس ومراقبة، ومهابط طيران، وشبكات اتصال إسرائيلية، اختارها بعناية ليوصل رسالة بمدى الاقتدار المعلوماتي والعسكري للمحور، في الجولان المحتل، ليلتها، أصابت الصواريخ اهدافها بدقة، واطفأت المواقع الإسرائيلية الأضواء، وفرضت الرقابة العسكرية تعتيماً تاماً على الآثار والخسائر، وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ما قاله ترامب تماماً: "لا خسائر في بشرية، استطعنا اسقاط 50 صاروخاً إيرانياً"، بحسب المصدر، فإن خلافاً "ودوداً" نشأ بين القيادة السورية والجنرال سليماني، على حجم الصواريخ المستخدمة التي كانت تحمل رؤوساً متفجرة تزن 300 كيلو غرام، يمكن أن تسدعي حرباً، ليست الجبهة السورية جاهزة لها،  وكان حجم الدمار الذي احدثته في المواقع الإسرائيلية كبير، بالقدر الذي استدعى انطلاق 28 طائرة إسرائيلية، شنت أكثر من 60 غارة على المواقع السورية.

صبيحة اليوم التالي، كانت القنوات الإخبارية العربية، ومنها وسائل إعلام فلسطينية، تتبنى الرواية الاسرائيلية، وهي ذاتها، التي كانت تسخر من منظومة القبة الحديدية التي تتواجد بكثافة كبيرة على حدود القطاع، ولا تستطيع اسقاط النسخ البسيطة من الصواريخ التي درب "جيش سليماني" المقاومة على تصنيعها!

وفي ذروة ذلك الاستياء، رشح إلى الإعلام حديث لمسؤول عسكري سوري علق على الهجوم بالقول: طائرات الإسرائيليين صرخت في دمشق، بحجم ألمها في الجولان، ليعترفوا بما يشاؤون، أو لا يعترفوا بشيء، هم ونحن نعلم ما فعلنا" .

 

 

 
 

النهضة نيوز - خاص