أخبار

الانقسام الحقيقي في الشرق الأوسط

14 آذار 2019 01:55

شبح الطائفية يحوم فوق الشرق الأوسط. يُلقى عليها اللوم بالنسبة إلى الفوضى والصراع والتطرّف، وتمثّل ما يُعتبر خطّ الصدع الرئيسيّ في المنطقة: السنّة في مواجهة الشيعة. إنّها تحظى بقوّة وأناقة نظريّة كبرى

شبح الطائفية يحوم فوق الشرق الأوسط. يُلقى عليها اللوم بالنسبة إلى الفوضى والصراع والتطرّف، وتمثّل ما يُعتبر خطّ الصدع الرئيسيّ في المنطقة: السنّة في مواجهة الشيعة. إنّها تحظى بقوّة وأناقة نظريّة كبرى تفسّر كلّ شيء. السنّة، محاصرون من الشيعة وساخطون على طموحاتهم. يتحوّلون إلى متشدّدين بأعداد كبيرة، ينضمّون إلى «القاعدة» ويتطوّعون في «داعش»، ويقاومون سيطرة الشيعة. الشيعة يحرّكهم قلق الأقليّة ويسعون إلى السّلطة بشكل يتجاوز بكثير حدود أعدادهم. التوترات القديمة والحاليّة بين فرعي الإسلام الرئيسيّين تلعب بلا شكّ دوراً في ديناميات المنطقة، لكنّه دور محدود في ما يخصّ القدر الأكبر من العنف الذي جلب الخراب والدمار لأجزاء واسعة من الشرق الأوسط. الطائفيّة خرافة قذرة مناسبة لتغليف الصراعات القديمة على السّلطة وإساءة معاملة الأقليّات والممارسات الاستبدادية القاسية.

اللاعب السنيّ الأكثر ضراوة في المنطقة، «تنظيم الدولة الإسلاميّة»، ورغم كلّ خطابه المعادي للشيعة، يمثّل السنّة الأغلبية الساحقة من ضحاياه. المعارك العنيفة في الموصل العراقية أو الرقّة السورية وضعت السنّة في مواجهة السنّة. السنّة في أغلب الحالات هم ضحايا هجمات «داعش» في سيناء المصريّة، الصومال، ليبيا، نيجيريا، وغيرها من المناطق، ولا توجد سوى أمثلة قليلة عن عمليات قتل واسعة ارتكبتها المجموعة بحقّ الشيعة.

الانتفاضات العربيّة، وهي أهمّ زلزال سياسي هزّ العالم العربي خلال العقد الأخير، تخللها صراع نموذجي سنّي-سنّي: في تونس، حيث بدأ كلّ شيء؛ مصر، حيث نما الأمر؛ ليبيا، حيث يتواصل. وينطبق ذلك أيضاً على الحرب الأهليّة الجزائريّة في التسعينيات، الموغلة في الوحشيّة والدمويّة. شهدت جميع هذه الأحداث صراعاً قويّاً حول زعامة العالم السنيّ وأظهرت صدامات عنيفة وتحالفات متغيّرة في صفوف الإخوان المسلمين والعثمانيّين الجدد والسلفيّين والوهابيّين (في نسختيهما السعودية والقطرية) والجهاديّين. القوى الأكثر اعتدالاً ـــ الأزهر في القاهرة والهاشميّون الأردنيّون والأغلبية الساحقة للسنّة المسالمين ـــ تنظر إلى هذه الصدامات كمتفرّج من خارج ساحة المعركة، وتأمل في أن تمرّ العاصفة بسرعة لكي تتاح لها من بعدها فرصة لأن تُسمع. 
في المأساة السوريّة، يُدرج الانقسام السنّي ـــ العلوي دائماً في سياق الصراع السنّي ـــ الشيعي الأوسع، الذي يقدَّم على أنه العنصر المركزيّ لفهم العنف. لكنّ النظام ليس علويّاً حصراً، فقد بُني على تحالف بين العلويين، والطبقات الوسطى السنيّة، ومجموعة من الأقليّات الدينية. من الصعب تصوّر بقاء نظام الأسد دون بعض الدعم على الأقلّ من أوساط سنيّة وازنة. خلال مرحلة طويلة من تاريخه، اعتمد النظام على دعم مالي وسياسي من ملكيات الخليج السنيّة، خاصّة من السعودية. وخلال الفترة الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق، سمح النظام السوري بنقل المقاتلين الإسلامويّين السنّة الراديكاليين إلى هذا البلد حيث استهدفوا الأميركيين، والشيعة المدعومين إيرانيّاً بشكل خاص.

الطائفيّة خرافة قذرة مناسبة لتغليف الصراعات القديمة على السلطة وإساءة معاملة الأقليّات والممارسات الاستبدادية القاسية


خلفية اندفاع إيران و«حزب الله» للدفاع عن الأسد هي سياسية واستراتيجية وليست نتيجة لهوية طائفيّة مشتركة. بلا شكّ، النظام السوري بعيد جداً في توجّهه الديني عن توجّه الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وإلى درجة كبيرة، تحوّلت الحرب في سوريا إلى معركة بين مجموعات إسلامويّة سنيّة لها قناعات ورعاة مختلفون أهدرت وقتاً وأرواحاً وموارد في قتال بعضها أكثر من قتالها للنظام.
التركيز حصريّاً على الصراع السنّي ـــ العلوي المهيمن يهمّش بعض الحقائق البارزة. استهدفت المجموعات السنّية المتمرّدة السنّة أكثر من العلويين. حاصرت المجموعات الإسلامويّة تجمّعات مسيحية ودنّست رموزها ونهبت قراها وقتلت قادتها الدينيّين وطردتهم من مهادهم القديمة. وعندما أنقذت روسيا النظام في دمشق ــــ وقتلت عدداً كبيراً من السنّة خلال الحرب ــــ لم يزدر القادة العرب السنّة بوتين، بل باشروا الحج المتكرر إلى موسكو محمَّلين بالهدايا.
مصر، أكثر الدول العربية السنّية سكّاناً، ومقرّ أكثر مراكز العلوم الدينية السنيّة احتراماً، حافظت على قنوات مع نظام الأسد وبقيت على مسافة من المعارضة السنّية. لم تنظر القاهرة إلى النظام باعتباره تهديداً شيعيّاً أو علوياً، بل رأت تهديداً إسلامويّاً من المعارضة السنّية. الجزائر، أكبر دولة في المغرب، تصرّفت على نحو مماثل. من غير المفاجئ، مع تراجع حدّة الحرب، أن تقرّر الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين إعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، فكلتاهما مشغولتان بالمعركة ضد تركيا وقطرن وتتشاركان الخوف من الإسلامويّة السنّية، وقد لا تتخلّف الرياض عنهما كثيراً.
لقصّة اليمن المعقّدة ملامح طائفيّة، لكن من المضلّل توصيف حربه الأهليّة على أنه صراع سنّي ـــ شيعي مباشر. وإلى حدّ كبير، فإن حافز المتمرّدين الحوثيّين هو القناعة بأنّ هويّتهم مهدّدة. ساعدت الثورة الإيرانيّة في توفير نموذج يُحتذى وحليف يتم التودّد إليه. وتحتل مسائل اجتماعية موقعاً مركزياً في شعور الحوثيّين بالمظلومية: هم غاضبون بسبب تدنّي مكانتهم والتجاهل المتزايد للجزء الشمالي من البلاد حيث معقلهم. تحوّل الصراع إلى حرب سعودية ــــ إيرانية بالوكالة ليس بدفع من هويات طائفية قديمة أو متينة. بينما كانوا يتمتّعون بدعم إيراني محدود، سعى الحوثيون – في مواجهة هجوم يقوده السعوديون- للحصول على دعم طهران التي رأت في الأمر فرصة ذهبية غير متوقّعة.
هذا المعطى جيوسياسي أكثر من كونه طائفياً ومواجهة استراتيجية لا تَنافس دينيّ. الصراع بين الحوثيين والتحالف الذي تتزعّمه السعودية ليس إلّا واحداً من بين صراعات كثيرة تمزق نسيج اليمن. عندما تنتهي تلك الحرب، سوف تتصاعد على الأغلب التوترات المرتبطة بالانفصاليين الجنوبيين و«القاعدة» و«داعش» والسلفيين، وهؤلاء جميعهم سنّة، التي ستسعرها الطموحات والاختلافات والخصومات السعودية ـــ الإماراتية.

عجز القادة عن الاحتكام إلى قيم أعلى مثل الحرية والتسامح يدفعهم إلى اللجوء إلى سرديات حول صراعات قديمة لإثارة الحماس وضمان الولاء


آخر أعمال العنف العارية والأكثر تغطية، هي قتل جمال خاشقجي، وهي أيضاً مسألة سنّية داخلية. الصحافي المقتول سنّي؛ والمنفّذون أيضاً سنّة. تركيا، التي وقع الاغتيال على أرضها ولعبت دوراً مساعداً في تسريب المعلومات حول المتهمين، دولة سنّية أيضاً. خلفية القتل هي التنازع بين فصائل الإسلام السنّي المتنوعة: الوهابيون والإخوان المسلمون والعثمانيون الجدد الدولتيّون المتنافسون جميعاً على الزعامة. الغائب البارز عن هذه الدراما هو إيران، الدولة الشيعية الرئيسيّة في المنطقة.
تتواصل القائمة. رئيس الوزراء اللبناني «المحتجز» على يد السعودية عام 2017، سنّي. زاد «حزب الله» فعليّاً من عدد حلفائه السنّة في البرلمان والحكومة عقب تدخّله في الحرب الأهلية السورية ضدّ المتمردين السنّة. لا يتدخّل الشيعة في الصدع الفلسطينيّ المرير بين فتح وحماس. لا علاقة لهم بالصراع الجزائري ـــ المغربي حول الصحراء الغربية أو بالتوترات السعودية ـــ الأردنية الحالية أو بتلك السعودية ـــ المغربية أو السعودية ـــ القطرية. الأمر نفسه ينطبق على التنافس على النفوذ بين السعودية وقطر والإمارات في القرن الأفريقي. الحملة التركية على الأكراد هي أيضاً مسألة سنّية داخلية. الفوضى المستمرّة في ليبيا، حيث لا يوجد خطّ تصدّع طائفي، ينبع من عداوات إثنيّة وقبليّة أو مناطقية بين السنّة، وكذلك الصدامات في غرب العراق أو التوترات الجغرافية بين الساحل والداخل التونسي.
في العراق، تطغى التوترات الشيعية الداخلية على المشهد السياسي اليوم، وقد يكون لها دور مهمّ في صياغة مستقبله السياسي أكثر من الانقسام الطائفي. إيران الشيعية ـــــ وليس تركيا السنّية أو دول الخليج السنّية ـــــ كانت أوّل من زوّد الأكراد ذوي الأغلبية السنّية بالأسلحة عندما هدّدتهم «داعش». محاولة السعودية بناء روابط مع مكوّنات شيعية في العراق وعلاقات إيران النشطة مع بعض السنّة العراقيين لا تتلاءم مع الديناميّة الطائفيّة الثنائيّة، وينطبق الأمر نفسه على رفض باكستان ـــــ وهي بين البلدان التي تضمّ أكبر عدد من السكّان السنّة في العالم ـــــ الالتفات إلى دعوة السعودية لها للقتال في اليمن. وعلى الرغم من الاضطرابات التي شهدها العراق ولبنان، من المهمّ الإشارة إلى أنّ المناطق الشيعية في جنوب البلدين، رغم تجاورها مع تجمّعات سنّية، لم تشهد هجمات أو تهديدات من جيرانها السنّة.
بالتأكيد، يوجد انقسام سنّي ـــ شيعي، وهو يُستخدم باستمرار من قبل السعودية وإيران لحشد أطرافه في سياق التنازع على النفوذ الإقليمي. يهاجم «القاعدة» و «داعش» أيضاً الشيعة في العراق وباكستان وأفغانستان لإثارة فتنة طائفية يأملان الاستفادة منها. لكن هذه الهجمات هي ضمن تكتيكات حرب، وليست بين أسبابها. وفي منطقة ودين تكمن أيام مجدهما في الماضي، يصبح التاريخ محفّزاً قويّاً للجماهير. يستحضر القادة السياسيون نزاعات بعيدة لإحياء ذكريات أيام العز والرفعة. عجزهم عن الاحتكام إلى قيم أعلى مثل الحريّة والتسامح يدفعهم إلى اللجوء إلى سرديات حول صراعات قديمة لإثارة الحماس وضمان الولاء.
تفسير غلبة الصراعات بين أطراف سنّية على تلك التي تقع بينها وبين أطراف شيعية يرتبط بإدراك السنّة حقيقة أنّهم يمثّلون حوالى ثمانين في المئة من السكّان، أي كونهم الأكثرية في المنطقة، وأنّ فرص تفوّق أخوتهم في الدين الشيعة عليهم ضئيلة جداً. تتنافس الجماعات السنّية للسيطرة على الإسلام السنّي ولا فائدة من قتال الشيعة لتحقيق هذا الهدف.
إساءة تعريف الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط تشجّع العلاجات الخاطئة. الحديث عن «الدول العربية السنّية المعتدلة»، وهي عبارة أضحت تقليدية من كثرة استخدامها في دوائر السياسة الخارجية الأميركية، محض هراء. المؤيدون لتقديم دعم عسكري للمعارضة السورية المسلّحة يزعمون بضرورة ذلك لتجنّب تهميش «العالم السنّي». لكن، لم يعن قرار تسليح ومساعدة المعارضة السورية الانحياز إلى السنّة ضد غير السنّة؛ بل عنى الانخراط في قتال سنّي داخلي رهيب. لقد كان ذلك خياراً مبنيّاً على قناعة خاطئة بأنّ السنّة السوريين العاديين يأملون في انتصار المعارضة الإسلامويّة على النظام نظراً إلى فظائعه.

تتنافس الجماعات السنّية للسيطرة على الإسلام السنّي ولا فائدة من قتال الشيعة لتحقيق هذا الهدف


قادت القراءات الغربيّة الخاطئة إلى عدم توقّع نجاح إيران، أقوى الدول الشيعيّة، وتركيا، أقوى الدول السنّية، بالحؤول دون أن تكون خلافاتهما عائقاً أمام الوصول إلى تفاهمات. لقد قاد ذلك إلى إساءة تقدير الديناميات المحدّدة للعلاقات بين الشيعة الإيرانيين والعراقيين، التي يقودها الخوف المشترك من الدور الأميركي أكثر من التضامن الطائفي. إذا انسحبت القوات الأميركية من العراق، ستصبح الخلافات بين الوطنيتين الإيرانية والعراقية، وبين النمطين من التشيّع في البلدين ـــــ في المقدمة. لقد قادت هذه القراءات أيضاً إلى إساءة تقدير واشنطن لأثر الدعم الروسي للنظام السوري، إذ لم يؤدِّ إلى الإضرار بعلاقاتها مع الدول العربية السنّية، بل إلى إعادة تأسيس وشرعنة حضور موسكو في المنطقة.
اليوم، يؤدي المنظور الذي يغلب أولوية الانقسام السنّي ـــــ الشيعي على غيره من الصراعات، إلى تحديد أهداف غير قابلة للتحقيق. غرقت محاولة تأسيس «ناتو» عربي، مصمّم لتوحيد الدول العربية في مواجهة إيران، في مستنقع النزاعات الخليجية الداخلية. ما زال السنّة في المنطقة يرون إيران كتهديد استراتيجي. لكن، اعتقاد الأميركيين بإمكانية نجاح خطابهم في توحيد العرب السنّة ضمن تحالف هجومي ضد إيران، يأتي في زمن ينفصل فيه هذا الخطاب الرنّان عن انشغال الأنظمة السنّية أكثر بالتحدي الذي تطرحه تركيا أكثر من إيران. الحلم العثمانيّ في نظرها أكثر خطورة من إيران. الجذور التاريخية للصراع بين العثمانيين والعرب تعود إلى مئات الأعوام. حكمت الإمبراطورية العثمانية مكّة والمدينة لأربعة قرون؛ فارس لم تفعل ذلك. التوق إلى ماضٍ مجيد لا يذوي فجأة. التبنّي الكسول لنظريات تبسيطيّة له نتائج حقيقيّة. إنّه يقود إلى التركيز على ما هو جانبيّ والتعامي عن الصراعات الحقيقية التي تحدّد مصير الشرق الأوسط.
* عضو مشارك رئيس في كلّية سان أنطوني في جامعة أوكسفورد
** رئيس «مجموعة الأزمات الدولية»، المنسّق السابق للبيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج في عهد باراك أوباما
يُنشَر هذا المقال، مترجَماً إلى العربية، في «الأخبار»، بإذن من الكاتبين (حسين أغا , روبرت مالي). النص الأصلي بالإنكليزية منشور في «ذا نيويوركر».