ثقافة وأدب

«فرويد وصناعة الوهم».. لماذا لن تنتهي الحرب على أفكار فرويد؟

14 نيسان 2019 11:55

تبدو ادعاءات فرويد غير علمية وسخيفة، لكننا ما زلنا نعيش في مناخه الفكري. في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، يناقش الكاتب آدم كيرش بعض أفكار سيجموند فرويد، ويستعرض كتاب «فروي

تبدو ادعاءات فرويد غير علمية وسخيفة، لكننا ما زلنا نعيش في مناخه الفكري. في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، يناقش الكاتب آدم كيرش بعض أفكار سيجموند فرويد، ويستعرض كتاب «فرويد: صناعة الوهم» الذي تسبب في انتقادات واسعة ضد فرويد مؤخرًا.

في عام 1930، نشر سيجموند فرويد كتابه «قلق في الحضارة»، والذي وضع فيه فرويد أفكاره عن التحليل النفسي للتغلب على مشكلات الثقافة الغربية الحديثة. يعتقد فرويد أنه «لم يدخل في خطة الكون أن الإنسان يجب أن يكون سعيدًا»، أي أن الإنسان في سعيه لتحقيق السعادة –والتي وصفها فرويد بالقوة الطفولية داخل الإنسان التي تدفعه لتحقيق رغباته- يصطدم بالواقع الذي يبدو كما لو أنه مُوجّه ضد هذا المبدأ، بحسب ما ذكر فرويد في كتابه. لم يتم حل هذا الصراع، ولكن تبنّي «مبدأ الواقع» يلطّف من حدة هذا الصراع، ويعني هذا المبدأ التكيف مع العالم كما هو، وأن نشعر بالرضا لتجنب المعاناة بدلًا من أن يكون الرضا في الوصول إلى السعادة الكاملة.

فِكر فرويد

ذكر فرويد أن الإنسان البدائي كان إذا واجه النار يقوم بإطفائها بالتبول عليها، ويرى أن الإنسان كان بذلك يحاول التغلب «جنسيًا» على كائن مذكر آخر

رأى فرويد أن هذه العملية تتم في حياة كل فرد، وتنعكس في تطور الحضارة التي يراها فرويد محاولة للسمو، أي التخلي عن الغرائز من أجل قيم عُليا مثل الفن والدين والأخلاق. في الوقت نفسه، يرى فرويد أن هذا التنازل يمكن أن يكون صعبًا لدرجة لا يمكن للإنسان تحملها.

إذا كانت أفكار فرويد عن الكيفية التي يشعر بها البشر ومعناتهم وتحليله للثقافة والأخلاق ما زالت تبدو مقنعة حتى الآن، فهذا لأننا ما زلنا نعيش في المناخ الفكري الذي أنشأه فرويد. بل يمكن القول بأن مسار الحضارة الغربية منذ الستينيات كانت تتبع فكر فرويد في تخفيف القيود التي أصبحت صارمة للغاية. في قصيدته التي ألفها رثاء لفرويد في عام 1939، يقول الشاعر ويستن هيو أودن «إنه لم يعد في نظرنا مجرد شخص الآن وإنما هو مناخ كامل من الرأي».

لكن أودن اعترف في القصيدة ذاتها أن فرويد «كان فى أوقات كثيرة مخطئًا، وفي بعض الأحيان غير عقلاني». الأمر الغريب فيما يتعلق بفرويد هو أن عبثه لا يمكن فصله عن حكمته. على سبيل المثال، في كتابه «قلق في الحضارة»، يفسر فرويد كيف استطاع البشر تطويع النار والذي وصفه بأنه «إنجاز خارق للمألوف ومنقطع النظير»، وأنه كان أصل الحضارة.

ذكر فرويد في ذات الكتاب أن الإنسان البدائي كان إذا واجه النار يقوم بإطفائها بالتبول عليها، ويرى فرويد أن الإنسان كان بذلك يحاول التغلب «جنسيًا» على كائن مذكر آخر، وأن الإنسان عندما قام بكبح رغبته الجنسية وقاوم رغبته بالتبول على النار وإبقائها مشتعلة، كوفئ بتسخير النار، مما كان إنجازًا حضاريًا، على حد وصف فرويد.

ماذا يمكننا أن نقول عندما يأتي مفكّر بنظرية غريبة كهذه؟ يقول الكاتب أنه علينا أولًا أن نعرف أنها ليست بنظرية على الإطلاق، لأنه لا يمكن التحقق من صحتها باستخدام أي دليل، لذلك فهي مجرد أسطورة عن حقبة ما قبل التاريخ. إضافة إلى ذلك، فإنها أسطورة مُغرضة وُضِعت لتُلائم أفكار فرويد حول العلاقة بين التنازل عن الرغبات والحضارة، وتستند إلى افتراضات غير منطقية تمامًا في علم النفس البشري، بالإضافة إلى افتراضها أن كل عمل يقوم به الإنسان له دافع جنسي.

لكن إذا كان هذا الافتراض هو السبب الجذري وراء التحليل النفسى عند فرويد، هل يعني ذلك أن التحليل النفسي أيضًا أسطورة؟ هل مفاهيم فرويد -مثل الأنا العُليا والهُوَ، ومبدأ السعادة، والأحلام باعتبارها وسيلة لتحقيق الرغبات- تستند على دليل قوي، أم أنها مثل أفكاره عن علاقة الإنسان بالنار؟ باختصار، هل كان فرويد طبيبًا وعالمًا كما ادّعى وكما اعتقد مرضاه وتلاميذه؟ أم أنه كان مجرد مفكر واسع الخيال أو إنسان حالِم؟

حروب فرويد

يقول الكاتب إن هذه الأسئلة هي القضية الرئيسية المطروحة في سلسلة من المناظرات العلمية والتي تعرف بحروب فرويد، والتي اندلعت من جديد مؤخرًا مع نشر الناقد الأدبي الأمريكي فريدريك كروز كتابًا بعنوان «فرويد: صناعة الوهم».

مضى نحو ثلاثة عقود منذ أن بدأ النقاد هجومًا مستمرًا على فرويد، إذ رأوا خللًا خطيرًا في ممارساته السريرية وفي أخلاقه المهنية وفي تكهناته النظرية. قبل مرضى فرويد تفسيراته بدافع الخوف، بالإضافة إلى أنه لم يكن السبب في علاج حالاته التي كتب عنها، مثل السيدة دورا والطفل هانز والحالة المسماة بالرجل الذئب.

تعامل فرويد مع حركة التحليل النفسي باعتبارها أمرًا دينيًا أكثر منه مسعى علميًّا، كما كان تحليله منحاز بهدف صقل سمعته

وقد تجددت تلك الاتهامات في الصحافة بصدور كتاب فريدريك كروز، الذي يركز على الفترة الأولى من حياة فرويد قبل أن يصبح مشهورًا. يهدف كروز إلى فضح زيف فرويد، بل وتشويه سمعته أيضًا، بحسب ما ذكر تقرير وول ستريت جورنال.

يرى كيرش تناقضًا فيما يفعله كروز، لأنه لا يمكن تدمير إرث مفكر من خلال مهاجمته، بل عن طريق نسيانه، عكس ما يقوك به كروز تمامًا. عند قراءتك لهذا الكتاب، فإنك بالتأكيد ستشعر أن فرويد لا بد وأن يكون شخصية مهمة ليتسبب في كل هذا الغضب. سيكون كافيًا لو أثبت كروز أن فرويد ليس عالمًا، وأن التحليل النفسي الذي وضعه ليس عِلمًا، لكن وصف كروز له بأنه كاذب ولص بل وتوجيهه اتهامات له في عِرضه يُفقِد القارئ الثقة في موضوعية الكاتب، بحسب ما جاء في تقرير وول ستريت جورنال.

يقول الكاتب إنه لا يمكن فصل فرويد عن أفكاره، وهو ما يجعلها شيئًا أبعد عن العِلم. على سبيل المثال، لا تقف صحة قانون الجاذبية على شخصية إسحاق نيوتن، ولا يمكن أن تسقط النظرية النسبية إذا ما وجد أحدهم دليلًا على أن أينشتاين كان لصًا. لكن اتهام نقاد فرويد له بأنه طبيب غير كفء أو بأنه سرق أفكار الآخرين، فإنهم يعنون الطعن في مصداقية أفكار فرويد أيضًا، إذ أن فرويد يعتبر فيلسوف أكثر من كونه عالمًا.

عداءه للدين

كان فرويد معاديًا للدين بشكل واضح، وخاصة اليهودية التي اعتنقتها عائلته. لا يبدو هذا مفاجئًا، فقد درس الطب في النصف الثاني من القرن الـ19، الفترة التي أصبح فيها العلم المصدر الرسمي للمعرفة خصوصًا في أوروبا، إذ قدم العلم تفسيرات لبعض الأسئلة مثل أصل الإنسان، كما قدم اختراعات مثل السكك الحديدة والتلغراف. يقول فرويد «العلم ليس وهمًا، لكن الوهم هو البحث عن الإجابات التي لا يستطيع العلم تقديمها في مكان آخر»، في إشارة إلى الدين.

ومن المفارقات أن من أسباب انتشار المدرسة الفرويدية هو دمجها بين الطموحات العلمية والصبغة الدينية. رأى فرويد أنه يجب تقييد السلوك الإنساني في نظام ما، وبذلك قدّم إجابات على أسئلة أخلاقية وميتافيزيقية كان الناس يبحثون عن إجابتها في الدين. على سبيل المثال، «كيف نعيش؟» و«لماذا هناك الكثير من التعاسة في العالم؟»، كما وعد التحليل النفسي بنظرية تفسر المعاناة الإنسانية وبعلاج لها.

على مدى أجيال، أنفق العديد من الناس الكثير من الأموال والوقت في محاولة للحصول على هذا الوعد، لكن –بحسب فريدريك كروز- فإن الحديث عن هذا العلاج هو مجرد وهم، إن لم يكن كذبة فعلية. يشير كروز إلى أن فرويد –ووصفه بالهستيري والعصابي- ابتدع نتائج لم يحصل عليها، ووضع تعميمات شاملة بناءً على عدد ضئيل من الحالات. أراد فرويد الوثب لتحقيق نتائج تبدو إعجازية، لكنه لم يتبع الاستقصاء المنظم الذي ينتج عنه اكتشاف علمي حقيقي.

أشار الكاتب إلى إن التحليل النفسي –بما في ذلك نظريات اللاوعي، وقمع الغرائز، والزلة الفرويدية، وتفسير الأحلام- بات متأصلًا في فهمنا الذاتي، ويصعب علينا التفكير بدونه. يقول الكاتب في نهاية المقال إن فرويد واحد من المفكرين الذي لا يمكن تجاهلهم، لذلك فإن الحروب ضده ستستمر أيضًا.