أخبار لبنان

على الشعب اللبناني أن يزيل "الخطوط الحمراء" الشائكة التي تقتل كرامته ووحدته وازدهاره

إيلي أنطون شويري

22 تموز 2019 12:25

              في لبنان، تنمو وتزدهر، مع مرور الزمن، بشكل غريب، مدهش، وبعكس أي شيء آخر، لغة الشعارات المسبوكة سبكا محكَما، لتصبح، مع الإستعمال المزمن، قوالب تعبيرية جامدة، جاهزة للإطلاق تبعا للظرف والم

              في لبنان، تنمو وتزدهر، مع مرور الزمن، بشكل غريب، مدهش، وبعكس أي شيء آخر، لغة الشعارات المسبوكة سبكا محكَما، لتصبح، مع الإستعمال المزمن، قوالب تعبيرية جامدة، جاهزة للإطلاق تبعا للظرف والمناسبة، وجزءاً مقبولا وحميما ومُهمّا من ثقافة المواطنين السياسية والإجتماعية، شعبا وساسة. 

               إن "العبقرية" اللبنانية تتفتّق دائما عن إبتكار تعابير لا نجدها في قاموس أو ذاكرة جماعية لأي مجتمع بشري في العالم. من أكثر التعابير استعمالا في مجتمعنا اللبناني، وفي كل الأوقات، هو تعبير "الخط الأحمر". إن "الخط الأحمر" يَرسُمُ حدودا غير مسموح بتجاوزها تحت طائلة المسؤولية، أي المحاسبة والإقتصاص والإنتقام. هذه الحدود ليست الحدود التي يرسمها القانون المحميّ من دولة القانون والمؤسسات المسؤولة عن تطبيقه في الدول الديمقراطية الراقية والناضجة، من أجل تنظيم وتسهيل حياة المجتمع، ومنع الفوضى في التعامل اليومي بين أبناء هذا المجتمع. إنها، في لبنان، حدود تُرسَمُ (بتفاهم صامت، ضمنيّ، بين الأفرقاء المتنافسين على السلطة) لحماية عنفوان وكبرياء وعروش ووجود السياسيين والزعماء ورؤساء الأحزاب والأديان والمذاهب والطوائف، ضدّ من يشنّ حملات التهجّم والتهديد والإهانة، أو حملات فضح الفاسدين منهم، وحتى ضدّ من يمارس، بمسؤولية واعية، حرية التعبير عن الرأي، والإنتقاد البنّاء. إننا نشهدُ، من وقت إلى آخر، إستدعاءات للمواطنين والإعلاميين للمثول أمام القضاء بتهمة التهكم أو السخرية أو الإنتقاد بشكل يُعْتَبَرُ من قبل أركان ورموز الدولة والسلطة والطوائف، تجاوزا لهالة "الخط الأحمر" المرسوم حولهم.

               حين ينهمك الساسة في البحث، مثلا، عن إسم رئيس جمهورية لينتخبوه، أو في مشاورات لتسمية رئيس حكومة، أو في تأليف حكومة، يكثر على لسانهم ولسان الإعلاميين إستعمال مفردات وتعابير مثل: تسوية، وكلمة السرّ، والضور الأخضر، والخارج، وقطبة مخفية، وسقف المطالب، وحوار، وتفاهم، وجولات أفق، وأحجام وأوزان وحيثيات شعبية، وحصص وزارية سيادية ووازنة وخدماتية، وتعطيل الحكم وتأجيل القرارات، وفراغ سياسي، والمصلحة الوطنية العليا. 

               هذا غيض من فيض من مفردات وتعابير اللغة السياسية التي يخترعها ويلوكها الساسة والإعلام بحسب المناسبات. إنها لغة يكرّرون مفرداتها على مسامع الشعب، كجعجعة رحى الطاحونة التي تصرع الرؤوس، ولا أحد يرى طحينا أو يشمّ ويلمس ويتذوّق ويأكل خبزا. 

               وأما الشعب، فهو ينقسم بين من يسمع ويتسلّى ويسخر ويضحك ويغضّ النظر لأنه قاطع الإنتخابات، وبين ساكت ومؤيد لفرط تعلقه بزعيمه وثقته العمياء بعبقريته، وبين من يغضب وينفر من كل الساسة ويلوم نفسه كيف انتخب أو أعاد انتخاب ممثلين فاشلين عنه، ويُنزِل عليهم سيلا من اللعنات والشتائم. والحياة تستمرّ بشكل طبيعيّ (سيّء للشعب، وجيّد للساسة) كما تعوّد الساسة والشعب. 

               غير أن حال الشعب اللبناني تذهب، كل يوم، من سيّء إلى أسوأ في كل المجالات والحقول والميادين، رغم كل التطمينات المخدِّرة التي يطلقها، من وقت إلى آخر، المسؤولون الغارقون وحدهم، على الدوام، في بحر "نيرفانا" المال والقوة والسلطة والعظمة والصحة والسعادة والنسيان (نسيان الشعب ومشاكله)، وانعدام التخطيط المستقبلي لحياة الشعب اللبناني، باستثناء التخطيط (بوجود موازنة للدراسة والإقرار أو بدون وجود موازنة) لإفقاره وإذلاله (وهم يبتسمون له)، ولزيادة ثرواتهم:

               الإقتصاد، الهجرة، غلاء المعيشة، البطالة، الفقر، الضرائب، دين الدولة العام، خزينة الدولة الفارغة، المنهوبة من حماتها بالذات، إستدانة الساسة الدائمة لمبالغ هائلة من مراكز المال في الغرب وتراكم الفوائد والديون على الشعب دون أن يستفيد من هذا المال، الفساد السياسي والإداري والمالي والهدر المستشري بشكل مستمرّ، مخيف، في الدولة، المزيد من فرض الضرائب والرسوم، الطلاق، تفكّك العائلة، التسوّل، النفايات والتلوث وتشويه البيئة والنتائج السيئة على صحة المواطنين، أمراض السرطان، تهريب وصناعة وتعاطي المخدِّرات، إنحطاط الأخلاق، إنعدام التربية المدنية الوطنية، ضحايا حوادث السير، موت الفقراء على أبواب المستشفيات، السرقات، التعدّي الجنسي، الإنتحار، الصدامات العنيفة بين المواطنين في الأماكن العامة واستعمال السلاح، تحدّي الجيش اللبناني والإعتداء عليه من قبل بعض شذاذ الآفاق، كسر القوانين على أنواعها من قوانين سير وبناء واستملاكات بحرية وبرّية، خطر الإرهاب الدائم...
 
               بإختصار، وببساطة، الإنسان في لبنان لا يحصل على حقوقه من الحكومات (المحاطة والمحميّة والمحصَّنَة دائما ب"الخط الأحمر")، المتعاقبة منذ اتفاق الطائف حتى هذه اللحظة. لقد أثبتت أنها حكومات "عمل" بالفعل، ولكن من أجل تصريف أعمال أركان الحكم وشركاء المال، وعرقلة أعمال الشعب وإتعاسه. هذه الحقوق تنصّ عليها "شرعة حقوق الإنسان"، التي، كما، يبدو، لا يعرف عنها شيئا ساسة لبنان وحلفاؤهم من تجار وأثرياء وأصحاب مصارف، أو لا يهمّهم أبدا أمرُ معرفتها وأمرُ تطبيقها بحذافيرها. إنهم خبراء، فقط، بتطبيق شريعة الغاب في تعاملهم مع الشعب، خاصة خلال بذلهم "الجهود الجبارة" خلال أشهر وأشهر لدراسة ونقاش الموازنة، وادعائهم أن ما توصلوا إلى إنجازه هو أفضل الممكن، وأنه مقدمة لا بأس بها للموازنة القادمة، وكانت نتيجة جهودهم هذه زيادة الضرائب الثقيلة على الشعب الفقير وحده، وارتفاع غلاء المعيشة.
 
               إن الشعب المحافظ على وعيه والذي لم تعمِ قلبه وعقله عبادةُ صنم الزعيم وما ومن وكم يمثل، قد فقد كليا ثقته بنوابه وكل مشتقاتهم من حملة الألقاب الفخمة ومحتكري عروش الحكم، مهما أجادوا بفنون الكلام البليغ والتفسيرات والتبريرات المنطقية بالنسبة لهم وحدهم فقط، لا بالنسبة للشعب المجروح والمقهور والنازف دمه، قبل وخلال وبعد إقرار الموازنة.
 
               إن الساسة الذين دعوا الشعب مرارا (وبروح تواضع وخشوع ولطف وبراءة أين منها روح الملائكة) إلى التضحية بماله وتعبه وصحته، والتقشف في عيشه، لتتميم الموازنة وملء الخزينة المنهوبة منهم، واستحقاق ثقة الجهة المموِّلة في الخارج (كلمة السر والسحر والحب والعطاء والجمال والسعادة عند الساسة، هي، اليوم، "سيدر")، لم يرَ ولم يسمع الشعب الواعي، غير المخدّر بحبهم الكاذب، وغير المأخوذ ب"خطوطهم الحمراء" وغير الخائف من وهجها، أحداً من هؤلاء الساسة يدعو كل النواب والوزراء والرؤساء والسفراء والمدراء العامين إلى التضحية برواتبهم (منهم من يتقاضى أكثر من راتب واحد) ومخصصاتهم وتعويضاتهم الأسطورية، وإلى التقشف في عيشتهم ووقف حياة البذخ والترف والبطر، وإلى التخلي عن إعفاءاتهم الضريبية، وإلى دفع ما يتوجب عليهم، وتخفيف الضرائب عن كاهل الشعب الفقير، وإلى البدء فورا بوقف استغلال مال الشعب وهدره وسرقته بدم بارد ووقاحة نادرة (توظيفات عشوائية للأزلام في الدولة التي نهبوها وأفلسوها، وسفرات ومواكبات، وإيجارات، وجمعيات وهمية وغير وهمية، وصفقات وعمولات واستثمارات وشركات خليوي و"أوجيرو" و"ليبان بوست" وكهرباء ومرفأ ومطار وجمارك ومصارف، إلخ... وكلها كلمات أصبحت تفوح منها روائح الفساد النتنة)، وإلى رفع يدهم عن القضاء والمباشرة بمحاكمة من تحوم حولهم شبهات السرقة والفساد والإثراء السريع وغير المشروع (وهم معروفون)، بدءا بمن أُثبِتَتْ عليهم التهمة ولجأوا بسرعة البرق إلى حماية رئيس طائفتهم، وأصبحوا، بكل بساطة ووقاحة وسحر ساحر ومشيئة إلهية، "خطًّا أحمر"، الويل لمن يتخطاه، ممّا أخرس أشدّ المتحمّسين من أجل محاربة الفاسدين، والذين خاضوا الإنتخابات النيابية الأخيرة على هذا الأساس، ونالوا ثقة الشعب المصدّق المخدوع.

               ثم، بعد المحاكمة التي وعد بها هؤلاء الساسة المتحمسون لمحاربة شبح الفساد (لا الفاسدين)، يأتي دور استرداد المال المسروق، وهم لم يبدأوا بعد بمحاكمة أحد، ولن يبدأوا أبدا، على ما يبدو، تجنبا لفضح بعضهم البعض (لا وجود لملائكة في الحكم وهم يعرفون جيدا أنفسهم وبعضهم البعض)، لا بل إنهم قد توقفوا، كليا، بعد هيجانهم البركاني لمحاربة الفساد، حتى عن لفظ كلمة "فساد" و"فاسدين" و"محاسبة" و"مال مسروق". كل شيء في الدولة قد تحوّل، فجأة، إلى عمل جادّ ودؤوب ومضنٍ وعابس في إنهاء الموازنة وحبس أنفاس الشعب وتسريع نبضات قلبه، وإلى العمل من جديد لخلق "خط أحمر" دائري  حول الدولة وموازنتها ومشاريعها، خط ممنوع تخطيه، حفاظا على "هيبة" ووحدة الحكم، و..."ماء الوجه". والساسة يعرفون جيدا أن ذاكرة الشعب المعذب قصيرة، وسرعان ما ينسى الظلم والظالمين، وواقعه التعيس، المأساوي، ويعود إلى حياته الطبيعية، مُطأطأ الرأس، مكسور الخاطر، والويل ثم الويل من إنتقام الدولة لمن يذكِّر الشعب بظالميه ويدعوه إلى ثورة الوعي والعصيان.

               وعود بوعود، كالمعتاد؟ وكلام بكلام؟ وجعجعة بلا طحين؟ وأصناج ترنّ؟ وحده، الشعب الواعي، الحزين، يسأل. ويجيب ب"نعم".

              إن شهية الكلام (البليغ والهشّ والفارغ والكاذب) شهية قوية جدا، ودائمة، في معظم ساسة لبنان وإعلامييهم. إنها، في مطلق الأحوال، شهيّة لا تبني ولا تحمي وطنا، بل تهدّمه. فكيف إذا كان هذا الوطن عرضة دائمة لشهية الدول المتوحّشة وإرهابيّيها، الطامعة بابتلاعه ومحوه عن الخارطة، والساسة وعابدوهم لا يدرون؟

               أما شهيّتُهُم على العمل، معا، من أجل توحيد الشعب وتقوية الجيش وتكريمه وزيادة أجوره (كما فعلوا لأنفسهم من قبل)، وإنجاز المشاريع الحيوية والعمرانية لخير الشعب وازدهاره، فهي شهيّة ضعيفة جدا، لا بل ميتة. وهم، مع شهية الكلام، يملكون شهية امتلاك المال والمصارف والعقارات والإستثمارات والقصور والقلاع والسيارات واليخوت والطائرات والأزلام والسلاح، وشهية الجلوس على عروش العظمة، وشهية أن يعترف بهذه العظمة سائر "عظماء" السياسة والمال والدين، والأتباع والمناوئين، وأن يهابوها. والشهية العظيمة، السرية، الباطنية، غير المعلنة، التي يملكونها وتتملّكهم، إنما هي شهية حماية بعضهم البعض، واحترامهم المتبادَل لخطوطهم الحمراء، مهما بالغوا في تمثيل أدوار الأخصام على مسرح الكذب والدجل والتهريج والأقنعة، أمام تصفيق الجماهير الغبيّة المخدوعة.

               كل زعيم "عظيم" هو، بنظره ونظر أتباعه، "خط أحمر" يقف عنده كل متطاول وقح. وبهذا المعنى، حتى الإنتقاد الموضوعي، المُحِق، لآلهة المال والعظمة، يُعتَبَر تطاولا وتجنّيا وتحدّيا، ويستحق العقاب، على يد الزعيم وأتباعه، أو على يد الدولة (أي حماتها ضدّ الشعب من قوى أمن وجيش) المملوكة من زعماء الطوائف المتناوبين على الحكم، أو من خلال قضائها المُسَيَّس والخاضع لأهواء ومصالح أركانها. وتمتدّ "الخطوط الحمراء" الشائكة من "عظمة" شخص الزعيم في لبنان إلى "عظمة" المراكز والعروش (أو الدويلات) الحكومية والمالية والحزبية والطائفية والمذهبية والعائلية، وسائر الحاشية والأتباع مِمّن يّسَمَّوْنَ ب"فاعليات البلد".

               ثمّة مركز واحد فقط، في لبنان، لا عرش له، ولا تنطبق عليه "شريعة" الخطّ الأحمر السائدة. إنه الشعب اللبناني الفقير، بأطفاله وشبابه ومسنيه. معظم الساسة يتطاولون عليه ويستهينون به، ويحتقرونه، ويخدعونه بالكلام المعسول والوعود الوردية، ولا يفعلون أي شيء لتحسين حياته وحمايته من البطالة والفقر وثقل الضرائب وغلاء المعيشة، والمرض والإنتحار والإنقسام واليأس، والموت البطيء قهرا، والهجرة. إن هذا المركز غير مسيّج وغير محميّ بهالة "الخط الأحمر" الشائك، هو مصدر كل سلطات الحكم السياسي والعسكري، والقضاء والأحزاب والطوائف. أجل، إنه الشعب اللبناني عينه الذي يستميت في سبيل الدفاع عن "الخطوط الحمراء" المحيطة بزعماء طوائفه، مروّضيه ومدجّنيه ومضطهديه وجلاديه وبنّائي عظمتهم وثرواتهم على حسابه، ولكن بملء إرادته واختياره، وهو من يسهّل لهم تطبيق شريعة الغاب عليه. إننا لا ولم ولن نسمع أحدا، لا من الساسة ولا من أبناء الشعب، يعلن بصوت عال: "الشعب خطٌّ أحمر". المفهوم والمعروف أن "هيبة" الدولة مهما كانت ظالمة، هي، دائما، أهم من "هيبة" وكرامة وازدهار وسعادة الشعب. 

               في هذه الأجواء المأساوية، المحزنة، تجد نفسها دولة القانون والمؤسسات الحقيقية وحيدة، يتيمة، مستوحشة، وموجودة فقط في قلب وذهن الصادقين والأتقياء والودعاء.

               تبقى القلّة القليلة التي تريد وتقرّر أن تعترض وتنتفض وتثور وتتخطى كل "الخطوط الحمراء" الباهرة، الخادعة، المصطنعة. إن هذه القلة تحاول، عبثا، أن تقنع أبناء الطوائف المُروَّضين، الخائفين من التحرّر من سطوة وعبادة الزعيم والعائلة والطائفة، ومن قطع صرّة الوفاء والولاء المريضَين، المُذِلَّيْن، لتلك الأصنام، بأن ينضموا إليها، هم والأكثرية الصامتة المصابة بشعور القرف، التي لم تشارك في الإنتخابات النيابية، أو التي قدّمت أوراقا بيضاء، في صرخة واحدة ضدّ الظلم المتمادي للساسة واستغبائهم للشعب، وفي وقفة واحدة تجمعهم في تظاهرات الشارع، أو في الإضراب العام، وصولا إلى العصيان المدني. إن هذه القلة القليلة المعترضة تتلقى، وحدها (ومن بينها العسكريون المتقاعدون، أبناء الجيش الذي يعتبره اللبنانيون بكل محبة واحترام "خطا أحمر"، المهدّدون بموازنة تقضم معاشات تقاعدهم وضماناتهم، والذين يتظاهرون ضدّ ظلم الحكم لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث)، وأكثرية الشعب تتفرّج ببرودة أعصاب، أجل، إنها تتلقى ضربات عصا الحكم (والحكم "خطّ أحمر") الذي يسعى دائما، وينجح في مسعاه، بأن يُفشِّلَ ويجهض أيّ تحرّك شعبيّ ولو كان سلميا، بسياسة الباطنية والكيدية والوعود الكاذبة، واستفراد وتفريق وإغراء أو تهديد بعض المعترضين وإسكاتهم، وباللجوء إلى استعمال العنف بواسطة القوى الأمنية والجيش، لحماية "الخطوط الحمراء" حول "هيبة الدولة". 

               إن النتيجة، في كل الأحوال، واحدة:

               -لا الشعب يحصل على حقوقه، مهما وكيفما وأنّى اعترض، ولا الساسة (الطامعون بتأييد وحماية أبناء ورؤساء طوائفهم الدائمَيْن لهم) يعملون من أجل إعطائه حقوقه. 

               -الشعب في حالة صامتة، دائمة، من الحزن والقلق والقهر والغضب. والساسة، بالمقابل، في حالة دائمة من هدوء الأعصاب والبال، ومن الأمان، وراحة الضمير، والرضى على الذات، والسعادة الدنيوية الأبدية لهم ولعيالهم. إنهم محاطون ومحصَّنون، على الدوام، بهالة فاقعة، باهرة من "الخطوط الحمراء".

               أجل، إنها دائرة مفرغة تبدو أبدية، يدور فيها الشعب اللبناني حتى القرف والدوخان والوجع وهي جحيم له، ويدور فيها الساسة حتى السكر والإنتشاء والعربدة والبطر، دون أن يشعروا بأي دوار أو إنزعاج أو قلق أو خوف، لأنها نعيم لهم. 
               كيف السبيل إلى خلاص الشعب من دوامته الجهنمية؟

               إنْ سألنا أنفسنا هذا السؤال، يمكننا، نظريا، أن نجيب عليه بسهولة: 

               -لا خلاص إلا بالتربية والوعي. هذا شيء معلوم من الجميع، وسهل قوله وترداده. 

               -ثمة شيءٌ آخر معلوم، وهو أن محاولة تربية شخص واحد (منذ الصغر حتى عمر الشباب) عملية صعبة جدا، فكيف بتربية الآلاف أو الملايين؟
 
               -كم من المُربّين والمفكرين والروحانيين والمصلحين الإجتماعيين قد مرّوا على البشرية منذ زمن بعيد، وقد اقتصر تأثيرهم، فقط، على أناس قليلين؟

               -ثمّ إن البشر يتكاثرون بسرعة فائقة، ومع هذا التكاثر، تصعب، أكثر فأكثر، عملية التربية والتوعية البطيئة جدا. كل إنسان، حين يولد، هو مشروع جديد وإمكانية وجود ونموّ لبناء الشخصية والعقل والأخلاق، بالتربية. لا يرث الإنسان الكمال حتى ولو ولد من أبوَين كاملَين، وهذا من باب تحصيل حاصل. ولنتذكر، هنا، أمرا في طبع معظم الناس بالوراثة ومنذ الولادة، وهو عناد الإنسان وأنانيته وكبرياؤه، ورفضه الطبيعيّ للإصغاء إلى صوت العقل والحكمة، صوت المربين من أهل ومعلمين، وإلى تغيير نفسه نحو الأفضل بالتربية الذاتية الواعية وقوة الإرادة.

               لذلك، يدفعنا هذا الأمر الواقع أن نكون واقعيين في مثاليتنا، وأن نقتنع بأن عملية تربية الفرد والمجتمع عملية صعبة جدا، تتطلب وقتا وجهدا كبيرَيْن، ولا يمكن لأحد أن يتوقع حصولها بسرعة البرق. إنها حكمة الخالق في خلقه. إنها حكمة عظيمة نجهلها، وتفوق إدراكنا البشري المحدود جدا. إننا لا نستفيد شيئا من مناقشتها أو رفضها. نقبل بها، بكل تواضع، ونحاول أن نفهمها، قدر الإمكان، ونعمل، بما أوتينا من قوة وتواضع وحكمة، للتكيّف معها، ومتابعة المسيرة على درب الكمال الوعر، الضيق.

               إذاً، في هذا الجوّ الصعب في لبنان (وفي العالم أجمع)، يمكن لكل إنسان محظوظ أو موهوب، قد نجح باكتساب وتحقيق درجة معينة من الوعي ومعرفة الذات والمحبة، أن يساهم مساهمة متواضعة، فعّالة، في البيت والمدرسة والجامعة وأماكن العمل والإعلام، في سبيل خلق الوعي (وعي الحقوق والواجبات والجرأة على المطالبة بها بإلحاح) في نفوس أهله وأقاربه وأصدقائه وشركائه في الوطن، وفي سبيل مساعدتهم على تخطي عقدة الجهل والتبعية والخوف من "الخطوط الحمراء"، والتحرّر من قيود سجن الساسة (الرافضين رفضا باتا لتغيير أنفسهم وسلوكهم والرافضين وغير المحبذين وغير المشجعين لتوعية أتباعهم كي لا يخسروا ولاءهم الأعمى لهم)، من أجل بناء حياة كريمة ومستقبل أفضل لجميع أبناء الوطن.
 
               إنها عملية وعي وتحرّر طويلة الأمد، تبدأ، إذاً، كما هو معلوم، بالتربية الأخلاقية والوطنية والفكرية الجيدة في البيت والمدرسة والجامعة، وتكمل طريقها في المجتمع بالإختيار الحرّ والواعي لأبناء الشعب، في صندوق الإقتراع، لممثليهم في الحكم، تواكبها عملية مراقبة دقيقة ودائمة لأدائهم في مجال خدمة مصالح الشعب، وعملية مكافأتهم أو محاسبتهم في الإقتراع القادم، كل أربع سنوات، بانتخابهم من جديد إن كانوا صالحين وأوفياء وفعّالين ومنتجين، أو بانتخاب مرشحين آخرين أفضل، إن كانوا غير أهل لتجديد الثقة بهم.

               إنها مسألة وقت. ومهما استعجلنا الأمر، ستبقى كذلك. الصدام، في تظاهرات الشارع السلمية مهما طالت، مع أدوات حماية الحكم المتجبّر، الظالم، لإجباره على تغيير سياسته الخاطئة تجاه الشعب (كما هي الحال في الدول الديمقراطية المتطورة)، لا يجدي نفعا في لبنان، حيث الديمقراطية زائفة، تلبس قناعا جميلا على وجهها، يخبىء واقعا بشعا مشبعا بروح الكبرياء والتسلط، ومحاطا بهالة "الخط الأحمر" لإرهاب وإذلال الشعب الذي ينتخب حكامه ويدفع أجورهم من ماله ليخدموه فيستعبدوه ويضطهدوه، وحيث زعماء الطوائف يفتعلون دائما الإنقسام والتناحر والخلاف (بإسم طوائف الشعب اللبناني وتحصيل حقوقها) على مصالحهم الخاصة وحصصهم في الحكم، وحيث ميزان العدل مفقود، والقضاء غير مستقل وخاضع لمشيئة ومصالح وأهواء الساسة، وحيث الصفقات والتسويات السياسية-التجارية-المالية مزدهرة على الدوام، وحيث لا حسيب ولا رقيب ولا حياة ولا حياء لمن تنادي ولا من يحزنون.
 
               إن ممارستنا للديمقراطية ما زالت متخلّفة جدا. إنها ليست ديمقراطية الأكثرية الواعية التي يفوق عددها، في الواقع، عدد المنتخبين، وتشكل أكثر من نصف الشعب اللبناني. إنها ديمقراطية أمزجة وأطماع ومصالح وكبرياء زعماء الطوائف، عبدة المال والقوة، وديمقراطية عابديهم من الأتباع. إنها، في الحقيقة، عدّة ديمقراطيات بعدّة رؤوس، تمارس فيما بينها، في الحكم وخارجه، سياسة الديكتاتورية، والتحدّي، والكيدية، والباطنية، والإبتزاز، والتقلّب في نسج الأحلاف الثنائية والثلاثية والرباعية (لا الأحلاف الوطنية الصرف) بحسب مصلحتها الشخصية لا بحسب مصلحة الوطن "العليا"، كما يدعي الساسة، وتمارس رسم "الخطوط الحمراء" حول أنفسها فقط، خطوط تتحدى الإنمحاء ولا يبوخ بريق لونها مع مرور الزمن، غير أنها لا ترسمُ أبدا "الخطوط الحمراء" حول الوطن الواحد، أي الشعب الواحد، لحمايته من شرور الأعداء.

               ولكنْ، رغم كل شيء، لا بدّ للشعب (والأخطار تهدد الوطن بأسره من كل جانب) أن يوحّد صفوفه (هل يوحّدها؟) قدر المستطاع، ودون أي تباطؤ، وأن يتابع، بصبر عجيب، و دون يأس وحقد وغضب، عملية إزالة "الخطوط الحمراء" (التي رسمها له ساسته وزعماء طوائفه، ورسمها هو نفسه لنفسه)، بالتعبير عن رأيه بصدق وجرأة في الإعلام وفي الشارع، وأن يتابع توعية شركاء الوطن على حقوقهم وواجباتهم، وحثّهم على الوحدة وعلى الإنضمام إلى صرخة الإعتراض السلميّ المتجددة في الشارع، وإلى المشاركة في الإضراب العام، وفي العصيان، إذا دعت الحاجة، ورفض دفع الضرائب الظالمة، لعلّ الحكّام المتكبرين يسمعون ويتنبهون ويعون، ويبادرون إلى الإستجابة السريعة لمطالب الشعب المحقّة، ولعلّ المجلس النيابي (وكل مشتقاته)، في كل جولة جديدة للإنتخابات النيابية ومن خلال قانون من اختيار نخب الشعب لا الساسة، في حال لم يؤتِ الصراخ في الإعلام وفي الشارع بثماره المرجوّة، أجل، لعلّ هذا المجلس يتنقّى، ساعتئذ، من أدرانه، ويزدان الحكم، شيئا فشيئا، بنخب جديدة جيدة، من ممثلي الشعب اللبناني الواعي، تغلب، بعددها وعدّتها الكاملة من الفكر الرؤيويّ النيّر (المتحرر من شهوة المال وسطوة الخارج)، والأخلاق الحميدة والصدق والتواضع، الفريق الأنانيّ، المتكبّر، المحب للمال والسلطة، والخاضع لسطوة الخارج، والرافض ِلخدمة الشعب، وتنزع عنه هالة "الخطوط الحمراء" المزيفة وتعيدها للشعب وجيشه، وتعمل هذه النخب الجيدة، معا، كقفير النحل العامل الخالي من الفراش اللعوب والدود والذباب الطنّان، في سبيل تحقيق وحدة الشعب اللبناني المحبّ والمسالم والمقاوم، وحدة طالما أرادها، عبثا، وتحرّق اشتياقا إليها، وفي سبيل تحقيق تقدمه وارتقائه وحريته وازدهاره وكرامته وعزّه وقوته ومناعته وسعادته.

               إن رهان إزالة "الخطوط الحمراء" الشائكة، المذلة للشعب اللبناني وحده، رهان عظيم. على الشعب اللبناني بكل نخبه الجيدة أن يجرؤ على اتخاذه. إنه رهان لا ينبغي أن يخيف المؤمن بإله القوة والحكمة والخير والمحبة والحق والعدل والجمال. إنه رهان، مهما طال الزمن، رابح ومنتصر، في نهاية مطاف الجهاد الروحي والفكري المقدس. 

                فهل من يجرؤ؟