تقارير وحوارات

هل للإعلام دور في تأجيج الرغبة في الانتحار وانتشار الجريمة؟

10 شباط 2019 05:04

آه يا شارلوت! لقد تعلقت جد التعلق بأسبابك، ولم أر معنى للوجود إلا بك، وأصبح افتراقنا منذ عرفتك لا يُحتمل. الغدارتان محشوتان .. دقت الحادية عشرة! ليكن ما قدر الله. شارلوت. وداعًا! .. إن الدم الذي لطخ ظ

آه يا شارلوت! لقد تعلقت جد التعلق بأسبابك، ولم أر معنى للوجود إلا بك، وأصبح افتراقنا منذ عرفتك لا يُحتمل. الغدارتان محشوتان .. دقت الحادية عشرة! ليكن ما قدر الله. شارلوت. وداعًا! .. إن الدم الذي لطخ ظهر كرسيه ليشهد أنه أطلق النار على نفسه وهو جالس إلى مكتبه، ثم سقط بعد ذلك على الأرض .. حيث وُجد ممددًا على ظهره قرب النافذة، بملابسه الكاملة. * يوهان جوته – آلام فيرتر

بهذه الكلمات وصف الكاتب الألماني يوهان جوته، اللحظات الأخيرة في حياة بطل روايته الشهيرة: آلام فيرتر، الذي قضى انتحارًا بعد أن يأس من اجتماعه بمحبوبته شارلوت التي تزوجت بغيره. وقد أقبل فيرتر، الذي قرر أنه لن يستطيع الاستمرار في حياته دون محبوبته، على فعلته تلك في تمام الحادية عشرة بعد أن دخل إلى مكتبه منتعلًا حذاء برقبة و مرتديًا معطفًا أزرق اللون تحته صديري أصفر. 

في عام 1774، نشر جوته روايته تلك دون أن يوقعها باسمه، ولكن سرعان ما اكُتشف من هو كاتبها بعد النجاح المدوي الذي حققته في الأوساط الأدبية الألمانية والأوروبية، ولكن المفزع في الأمر؛ أن ذلك النجاح المدوي قد صاحبه ظاهرة غريبة ومفزعة، وهي أن عددًا من الشباب قد فُتنوا بفيرتر -بطل الرواية- لدرجة أنهم لم يكتفوا بتقليد طريقة كلامه ولباسه، بل قد انتحروا في غرف المكتب الخاصة بهم في تمام الساعة الحادية عشر، بالطريقة نفسها التي انتحر بها، فأطلقوا النار على أنفسهم وهم جالسون على مكاتبهم. 

وقد شكلت حمى الانتحار تلك صدمة كبيرة في الكثير من دول أوروبا في ذلك الوقت، ولأن أحدًا لم يعرف السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة الغريبة فقد لجأت دول مثل إيطاليا، وألمانيا والدنمارك إلى حظر بيع وتداول الرواية. 

وقد ظلت ظاهرة تفشي الانتحار بين الشباب التي أعقبت نشر تلك الرواية لغزًا حتى قرر ديفيد فيليبس، الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، دراسة الظاهرة ووصل إلى نتيجة مفادها أن شهرة تلك الرواية إضافة إلى قيام كاتبها بوصف عملية انتحار البطل وصفًا دقيقًا قد أديا إلى تأجيج الرغبة في الانتحار -في ظل غياب عوامل الرقابة والحماية- بين الشباب سريعي التأثر.

ما هو تأثير فيرتر؟

بعد ما يقرب من مرور قرنين من الزمان على نشر رواية آلام فيرتر، استيقظ العالم في صباح يوم السابع من أغسطس (آب) عام 1962 على خبر انتحار مارلين مونرو، نجمة هوليوود الشهيرة. وقد شكل هذا الخبر صدمة للعالم بأسره وقتها لسببين، أولهما انتحار النجمة الجميلة وهي في ريعان شبابها وأوج مجدها الفني، أما السبب الآخر فكان موجة الانتحارات التي انتشرت بين الشباب بعد حادثة انتحارها (زاد معدل الانتحار بين الشباب بنسبة 12%)، الأمر الذي أعاد تأثير رواية آلام فيرتر لجوته إلى أذهان الجميع مرة أخرى.

وقد حدا ذلك بعالم الاجتماع ديفيد فيليبس إلى دراسة تلك الظاهرة، التي أطلق عليها «تأثير فيرتر»، في بحثه الذي نُشر عام 1974. وقد اعتمد فيليبس، أثناء إعداده لذلك البحث، على دراسة إحصاءات حوادث الانتحار التي نشرت في الجرائد في بريطانيا وأمريكا أخبارها في الفترة الممتدة ما بين 1947 إلى 1968، ولشدة دهشته؛ فقد لاحظ أن الشهرين التاليين لكل حادثة انتحار تناولتها الصحف في صفحتها الأولى يشهدان ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الانتحار، خصوصًا بين الشباب. 

ولم يقتصر الأمر على ارتفاع نسبة الانتحار فقط، بل قد لاحظ فيليبس أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في معدل حوادث السيارات، والدراجات النارية، بل وحتى الطائرات في المناطق التي تحدث فيها حالات انتحار وتناولتها الصحف بقدر من الاهتمام في صفحتها الأولى. وكان العجيب في الأمر أن الشباب الذين توفوا جراء مثل هذه الحوادث كانوا يتابعون أخبار انتحار الشباب، في حين أن كبار السن الذين توفوا في حوادث من ذلك النوع كانوا مهتمين بتتبع أخبار انتحار الأشخاص الأكبر سنًا، الأمر الذي يُلقي ظلالًا من الشك حول إمكانية أن تكون هذه الحوادث مقصودة ومدبرة، وأن مرتكبيها قد أرادوا أن يبدو انتحارهم في صورة حادثة عادية، لئلا يزعجوا أفراد عائلاتهم ويجلبوا لهم الخزي والألم، ولكي لا تتأثر سمعتهم بعد موتهم، أو ربما لكي يستطيع ذووهم أخذ أموال التأمين على الحياة المخصصة لهم. 

وقد كانت النتيجة التي توصل إليها فيليبس من خلال دراسته تلك، أن تناول الصحف لهذه الأخبار باهتمام شديد والتركيز على تفاصيلها بلغة تحمل نبرة تعاطف واضحة، قد أظهرت المنتحرين في صورة أبطال وأفقدت الموت رهبته في أعين الكثيرين ممن لديهم ميل أصلًا إلى الانتحار، وكأنها بذلك قد أعطت ضوءًا أخضر لأولئك الذين لا يملكون القوة لاتخاذ مثل هذا القرار بأن هذا هو القرار الأنسب في مواجهة مشاكلهم مهما كانت تافهة.

هل الجريمة أيضًا مُعدية؟

في الثاني من فبراير (شباط) عام 1996، دخل باري لوكايتيس ذو الأربعة عشر عامًا مدرسته الواقعة في مدينة موسيس ليك بواشنطن، وفي يده سلاح رشاش آلي أطلق به النار على مدرس الحساب واثنين من زملائه، فأرداهم قتلى في الحال، ثم مشى في طرقات المدرسة حاملًا سلاحه وهو يردد بصوت عال: «لقد هزمت الجبر، أليس كذلك؟». 

في الواقع لم تكن تلك الكلمات التي ظل يرددها لوكايتيس بعد تلك الحادثة من إبداعه، بل قد اقتبسها من رواية لستيفن كينج بعنوان الغضب، والتي كانت تتحدث عن حادث إطلاق نار جماعي بإحدى المدارس. وحين أُلقي القبض على لوكايتيس وسألته السلطات عن الدوافع الكامنة وراء جريمته تلك، جاء رده بأنه قد فقد السيطرة على نفسه وشعر برغبة ملحة في قتل الناس رميًا بالرصاص، بسبب تأثره الشديد برواية الغضب وكذلك فيلمي قتلة بالفطرة ومذكرات كرة السلة.

ومن الملاحظ أنه حتى ذلك الوقت لم تكن حوادث إطلاق النار بالمدارس من الحوادث الشائعة في أمريكا، ولكن الاهتمام الشديد الذي أولته وسائل الإعلام لتغطية هذه الحادثة قد انعكس بشكل كبير على زيادة حوادث إطلاق النار الجماعي في المدارس والأماكن العامة، مما يعني أن الخطر قد أصبح مضاعفًا لأنه لم يعد متوقفًا على انتحار مجموعة من الأفراد، تأثرًا بعمل أدبي أو بأخبار الانتحار التي تتداولها الصحف، بل قد امتد إلى اكتساب سلوكيات إجرامية من أفلام الحركة والعنف وإيذاء عدد كبير من الأبرياء. 

وقد أدت ظاهرة محاكاة الجرائم الجديدة تلك إلى قيام علماء النفس والاجتماع بعدة أبحاث خلصت نتائجهاإلى أن الأفراد الذين يتأثرون بروايات وأفلام الجريمة لدرجة محاكاتها بالتفصيل إنما يتنصلون -عند قيامهم بهذا الأمر- من ذواتهم الحقيقية، وينتحلون شخصية المجرم في الفيلم أو الرواية. وذلك لأن انتحال شخصية المجرم يُسهل على هؤلاء الأشخاص الجرائم وأفعال العنف التي يرتكبونها بحق أشخاص أبرياء إذ يشعرهم هذا الأمر أن غيرهم من ارتكبها لا هم بشخصياتهم الحقيقية.

أما عن السبب الحقيقي الذي يدفع البعض لانتحال شخصيات المجرمين في الأعمال الأدبية والفنية؛ فمن المرجح أن رغبتهم في لفت الأنظار والاستفادة من شهرة هذه الأعمال الأدبية والتلفزيونية هي الدافع وراء جرائمهم تلك، وذلك لأن شهرة هذه الأعمال سوف تنعكس عليهم شخصيًا؛ وبالتالي، سوف تلتفت أنظار وسائل الإعلام إليهم وسيتحدث عنهم الجميع لأيام وربما لشهور. ولكن الجانب الأكثر إفزاعًا في الأمر هو أن هؤلاء الأشخاص سوف يتسببون في حلقة من أحداث العنف الدموية كلما زاد اهتمام وسائل الإعلام بهم وتركيزها على جرائمهم.

الموت يحقق أعلى المبيعات.. هل للإعلام دور في تأجيج الرغبة في الانتحار وانتشار الجريمة؟ 

إن المنصات الإعلامية لا هم لها سوى الحديث عن الموت. * الصحفي الأمريكي الشهير دان راذر في كلمته التي ألقاها أمام نادي الصحافة الوطني الأمريكي

من منا لم يطالع النوعية التالية من الأخبار على صفحات الجرائد وعلى مواقع الإنترنت وشاشات التلفاز بشكل يومي: هجمات انتحارية، جرائم قتل، حوادث سير، أحداث عنف، أمراض فتاكة، هجوم حيوانات ضارية، اغتيالات، ناهيك عن الأخبار المتعلقة بحوادث الاختطاف، والاغتصاب، والتعذيب ومحاولات الانتحار التي باءت بالفشل؟ 

إن مطالعة هذه النوعية من الأخبار التي تُفرد لها وسائل الإعلام مساحة كبيرة من التغطية إنما تكشف عن حقيقة هامة مفادها أن معظم المنصات الإعلامية تعمد إلى التركيز على الأخبار التي تتسم بالعنف لجذب انتباه الجمهور من القراء والمتابعين، وبالتالي تحقيق أعلى نسبة من المبيعات. ولكي نكون منصفين؛ فإن وسائل الإعلام تتناول مواضيع أخرى ترفيهية إلى جانب هذه المواضيع، ولكن تبقى أخبار الموت وما يصاحبه من رهبة وألم وحزن هي أكثر الأخبار التي تتناولها وسائل الإعلام بالتغطية، وذلك لأن هذه المواضيع هي أكثر ما يثير انتباه القارئ ويثير فضوله لأنها تجعله في مواجهة مباشرة مع أكثر شيء يخشاه: الموت. وهكذا، تمطرنا وسائل الإعلام يوميًا بوابل من هذه النوعية من الأخبار دون أن يراعي القائمون عليها اهتمامًا لتداعياتها الخطيرة على المجتمع وأفراده.

وبالتالي؛ فإن الاهتمام المبالغ فيه من وسائل الإعلام وطريقة عرضها لهذه النوعية من الأخبار هو ما يؤدي إلى ازدهار بعض الظواهر النفسية الخطيرة بين أفراد المجتمع مثل تأثير فيرتر وظاهرة أحداث القتل الجماعي التي تحدث بشكل متلاحق.

وفي هذا الصدد، يشير الكاتب الأمريكي لورين كولمانبأصابع الاتهام إلى وسائل الإعلام والقائمين عليها متهمًا إياهم بمحاولة التعظيم من حجم أحداث العنف التي يتناولونها لكي يضمنوا أعلى نسبة من القراءات والمشاهدات دون التركيز على الآثار السلبية التي قد تخلفها هذه الأخبار ودون المساهمة في اقتراح حلول تحد من تأثيرها. 

ويرى كولمان أن وسائل الإعلام إنما تميل إلى الميلودراما وإثارة عواطف القارئ أثناء تغطيتها لهذه النوعية من الأخبار لكي يسهل تأثره بها، الأمر الذي يشير إلى أن الإعلام يميل إلى تضخيم الأمور وتصوير الحوادث في صورة أكبر من حجمها. لذلك؛ فإن كولمان قد اختار أن يطلق على ما يعرف بتأثير فيرتر: «السر القذر للإعلام»، وذلك لأن وسائل الإعلام لا تريد أن تعترف به ولا أن تتوقف عن الأمور التي تؤدي لحدوثه.

ولذلك؛ فإن خبراء علم النفس -ومنهم كولمان- يوصون بتقليل حجم التركيز الإعلامي على حوادث الانتحار والقتل الجماعي، والتعامل مع تلك النوعية من الأخبار بحذر شديد. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق نقل هذه الأخبار إلى الصفحات الأخيرة في الجرائد، وتقليل مدة تغطيتها في النشرات والتقارير الإخبارية، وكذلك التحدث عن مثل هذه الحوادث ومرتكبيها بأسلوب محايد لا يظهرهم في صورة الأبطال ولا يضفي صبغة الرومانسية على مثل هذه الأحداث حتى لا تقل رهبة الموت في أنفس جماهير القراء، خصوصًا الشباب منهم الذين يعانون من ميول انتحارية أو ميل إلى العنف.