الاكتشاف العلمي
في دراسة حديثة أجراها معهد ماكس بلانك للذكاء البيولوجي بالتعاون مع باحثين دوليين، تم الكشف عن قدرة مذهلة لطائر "روف" (Ruff) على تحطيم التستوستيرون الزائد في مجرى الدم، هذا الطائر الذي ينتشر في أوروبا وآسيا، يتميز بثلاثة أنواع ذكورية تختلف في السلوك والمظهر، وقد توصل العلماء إلى أن هذه الاختلافات ناتجة عن جين واحد مسؤول عن إنتاج إنزيم خارق يعمل على تحليل التستوستيرون بسرعة، مما يسلط الضوء على دور غير متوقع للدم في تنظيم الهرمونات الجنسية.
التستوستيرون ودوره في سلوك الذكور
يُعرف التستوستيرون بأنه هرمون الذكورة الأساسي، حيث يؤثر على الصفات الذكورية، النمو الجنسي، والسلوك العدواني، في معظم الحيوانات، ترتبط المستويات العالية من التستوستيرون بزيادة الهيمنة والنجاح في التكاثر. وعادةً ما يتم إنتاجه في الخصيتين وينتقل عبر الدم ليؤدي وظائفه في مختلف أجزاء الجسم.
لكن في طيور "روف"، تتطلب استراتيجيات التكاثر المختلفة مستويات متفاوتة من التستوستيرون، مما دفع بعض الذكور إلى تطوير آلية فريدة للتخلص من الفائض.
ثلاثة أنواع من الذكور واستراتيجياتها الإنجابية
تنقسم ذكور طائر "روف" إلى ثلاثة أنواع رئيسية تُعرف باسم "مورفس" (Morphs)، وتتميز كل مجموعة بمظهر وسلوك مختلفين:
1. المستقلون (Independents):
يشكلون الغالبية العظمى من الذكور.
يتميزون بريش داكن ويعتمدون على العدوانية والدفاع عن مناطقهم في ساحات التزاوج (Leks) لجذب الإناث.
يمتلكون أعلى مستويات التستوستيرون في الدم.
2. الأقمار الصناعية (Satellites):
أصغر حجما من المستقلين ولديهم ريش أفتح لونا.
يعتمدون على نهج أقل عدوانية، حيث يتحالفون مع الذكور المستقلين بدلاً من التنافس ضدهم.
يمتلكون مستويات أقل من التستوستيرون.
3. المتنكرون (Faeders):
نادرون ولكن يتمتعون بميزة مدهشة، حيث يتنكرون في هيئة الإناث.
يستطيعون دخول ساحات التزاوج دون أن يلاحظهم الذكور الآخرون، مما يمنحهم فرصة أكبر للتزاوج.
لديهم أدنى مستويات التستوستيرون في الدم.
دور العوامل الجينية في تنظيم التستوستيرون
حتى وقت قريب، لم يكن العلماء يعرفون الكثير عن العوامل الجينية التي تنظم مستويات التستوستيرون، ومع ذلك، كشفت الدراسة أن الفرق بين الذكور الثلاثة يرجع إلى "جين خارق" (Supergene)، وهو جزء من الحمض النووي يحتوي على حوالي 100 جين، نشأ هذا الجين منذ حوالي أربعة ملايين عام عندما انفصل جزء من الكروموسوم وأُعيد إدخاله بترتيب معكوس.
اكتشاف الإنزيم الخارق
أثناء تحليل التعبير الجيني، لاحظ الباحثون أن أحد الجينات داخل "الجين الخارق" يرمز لإنزيم قادر على تحليل التستوستيرون بكفاءة عالية.
يُنتج هذا الإنزيم بكميات كبيرة في الذكور الأقمار الصناعية والمتنكرين، لكنه لا يُفرز في الخصيتين.
على الرغم من انخفاض التستوستيرون في الدم، أظهرت القياسات أن الخصيتين لدى الأقمار الصناعية والمتنكرين تنتجان كمية أكبر من التستوستيرون مقارنة بالمستقلين.
لكن الإنزيم الخارق يعمل على تحطيم التستوستيرون بسرعة في الدم، مما يمنع وصوله إلى الدماغ، ويحدّ من تأثيره على السلوك العدواني.
الدور غير المتوقع للدم في تنظيم الهرمونات
من المعروف أن الإنزيمات التي تحطم الهرمونات تعمل عادة في الكبد، لكن هذه الدراسة أظهرت أن الإنزيم الخارق يعمل مباشرة في مجرى الدم.
يقول الباحث "أليكس زيميلا"، أحد المشاركين في الدراسة:
"كنا نعتقد سابقا أن هذا الإنزيم لا يؤثر على مستويات الهرمونات في الدم، لكن النتائج أثبتت العكس، مما يفتح بابا جديدا لفهم كيفية تنظيم مستويات التستوستيرون في الحيوانات."
استراتيجية تكاثر ذكية تتحكم فيها جينات محددة
توضح هذه النتائج أن الذكور الأقل عدوانية طوّروا طرقا متقدمة لزيادة فرصهم في التكاثر.
تقول الباحثة "جاسمين لوفلاند"، إحدى القائمين على الدراسة:
"جميع الذكور يحتاجون إلى التستوستيرون لإنتاج الحيوانات المنوية، لكن المستويات العالية منه تؤثر على الدماغ، مما يعزز السلوك العدواني والتودد للإناث، من المثير للاهتمام أن الذكور غير العدوانيين لديهم مستويات مرتفعة من الإنزيم الخارق في الدماغ، خاصة في منطقة تحت المهاد (Hypothalamus)، مما يساعد في تشكيل استراتيجيات التزاوج لديهم."
تأثير الاكتشاف على الأبحاث المستقبلية
فتح هذا الاكتشاف آفاقا جديدة في دراسة تأثير الجينات على مستويات التستوستيرون، مما قد يساعد في فهم السلوكيات الاجتماعية المعقدة لدى الحيوانات، يخطط الفريق العلمي لدراسة كيفية تطور هذه الآليات بمرور الزمن، وما إذا كانت هناك حيوانات أخرى تمتلك استراتيجيات مماثلة.
يكشف البحث عن جانب مذهل من علم الأحياء التطوري، حيث طوّرت طيور "روف" آلية عبقرية للتحكم في هرمون الذكورة بما يتناسب مع استراتيجياتها الإنجابية المختلفة، من خلال جين واحد، تمكنت هذه الطيور من تغيير سلوكها بشكل جذري، مما يوضح مدى تعقيد وتأثير العوامل الجينية في تشكيل السلوك الحيواني.