الرؤية الروسية للسياسة العالمية وطبيعة دورها في منطقة الشرق الأوسط

الرؤية الروسية للسياسة العالمية وطبيعة دورها في منطقة الشرق الأوسط

كتب فياتشيسلاف موروزوف، أستاذ دراسات الاتحاد الأوروبي وروسيا بجامعة تارتو، والمتخصص في القضايا المتعلقة بالهوية القومية الروسية والسياسة الخارجية، مقالاً في موقع كلية لندن للإقتصاد، يحدد فيه السمات البارزة للرؤية العالمية التي تشكل السياسة الخارجية الروسية، مع التركيز بشكل خاص على كيفية تطبيقها في الشرق الأوسط.

فاعتبر الأستاذ الجامعي موروزوف، بأن النقطة الأساسية الأولى هي أن السياسة العالمية، من منظور موسكو، يهيمن عليها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول، حيث تلعب الجهات الفاعلة الأخرى دورا في مناطقها الخاصة، لكن التصور العام هو أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على التأثير في التطورات العالمية وتشكل تهديدا ماديا لسيادة روسيا.

وهذا يعكس النزعة الأوروبية العامة للنخب الروسية، والتي ارتبطت منذ عهد القيصر الروسي بيتر الأول بقوة بأوروبا وتبنت ثقافتها من خلال التنوير، باعتبارها الجزء المتحضر الوحيد من العالم، ولكن كان هذا أمرا إشكاليا فقط.

وأوضح موروزوف، بأنه غالبا ما أدى عدم الاعتراف بروسيا كدولة أوروبية إلى توترات مريرة مع الدول الأوروبية الأخرى، ولكن حتى في أوقات المواجهة السياسية، لم تتخلى روسيا عن مطالبتها بكونها دولة أوروبية، وبدلا من ذلك، كما جادل المفكر الشهير إيفر نيومان، فإن روسيا تقدم نفسها على أنها "أوروبا الحقيقية"، التي تدافع عن القيم الأوروبية "الحقيقية" والمسيحية ضد الانحلال الأخلاقي الذي يحدث في جميع أنحاء القارة الأوروبية، وأنه يجب وضع سياق لأزمة اليوم في العلاقات بين روسيا والغرب على أنه استمرار لهذا النمط.

وذكر موروزوف، بأن هيمنة مثل هذه المركزية الأوروبية تفسر السبب، فحتى مع اعتقاد روسيا أن الغرب في حالة تدهور مستمر، إلا أنها تواصل التركيز على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كتحدي رئيسي للأمن القومي الروسي، و المنطق المعمول به في هذه الحالة هو أنه بينما يمكن القول أن صعود الصين إلى السلطة على المسرح العالمي سلمي، فإن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحاول يائسا الاحتفاظ بهيمنته على المسرح الدولي، و لهذه الغاية، لا يتوقف الأمر عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة والتدخل العسكري، كما حدث في العراق عام 2003 أو في سوريا منذ عام 2014.

ووفقا للكرملين، يستخدم الغرب خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، في حين أن الهدف النهائي والحقيقي لجميع تلك "الثورات الملونة" المختلفة هو إبقاء الدول غير الغربية تحت السيطرة الأمريكية.

أما بالنسبة لروسيا التي ينظر إليها على أنها الزعيم الروحي للعالم غير الغربي والقوة النووية العظمى الوحيدة التي يمكن مقارنتها بالولايات المتحدة الأمريكي، فالهدف النهائي لها في هذه المعركة والصراع مع الغرب هو أنها يجب أن تحمي سيادتها بأي ثمن، ليس فقط لمصلحتها، ولكن كجزء من مهمة عالمية لمنع الهيمنة أحادية الجانب للغرب الأمريكي في الشؤون العالمية.

ففي الخطاب الروسي، يتم تقديم النظام العالمي الحالي بطريقة متناقضة، حيث ينظر إليه على أنه أحادي القطب من حيث أن الغرب مستبد وعدواني في محاولاته للبقاء في الصدارة، ومع ذلك، ينظر إلى النظام العالمي أيضا على أنه متعدد الأقطاب نظرا لظهور قوى عظمى أخرى محتملة.

ويضيف كاتب المقال بأنه ومنذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تقدم عقيدة السياسة الخارجية لروسيا تعددية الأقطاب كحقيقة واقعة وأنها لم تعد احتمالا، ومع ذلك، يبدو أيضا أن روسيا لا تزال في وضع فريد من نوعه باعتبارها المنافس الوحيد والجدي للهيمنة الغربية الأمريكية، وأنها التي تحافظ على عنصر القطبية في المسرح العالمي أيضا.

ويعتبر موروزوف، في آخر تحليله بأن نظرة الكرملين للعالم هي نظرة تآمريه (قائمة على المؤامرة)، حيث أن روسيا لا تؤمن بالسياسات الشعبية أو النشاط المدني أو أي عمل مستقل آخر، وأن الناس غير قادرين على تقديم تضحيات، وأنهم إذا قضوا وقتهم في الدفاع عن قضية ما، فيجب أن يحصلوا على المال مقابل ذلك، وأن هناك دائما شخص يسحب الخيوط ويحركها ويقف وراء أي حركة، وأنه يوجد أهداف جيوسياسية أو مصالح اقتصادية، أو كليهما وراء كل شيء.

فمع أخذ كل هذا في الاعتبار، من الواضح أن ما أطلق عليه اسم " الربيع العربي " كان حدثا رئيسيا في تحفيز موسكو على الانخراط بشكل أكثر نشاطا في الشرق الأوسط، فمن وجهة نظر الكرملين، كانت حركات الاحتجاج في جميع أنحاء المنطقة نتيجة لمحاولات واشنطن لتغيير النظام من أجل قلب التوازن الجيوسياسي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد كان ينظر إلى الربيع العربي على أنه حلقة وصل في سلسلة من الأحداث التي بدأت مع حملة حلف الناتو ضد يوغوسلافيا الفيدرالية عام 1999، واستمرار التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، وسلسلة "الثورات الملونة" في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى حركة الاحتجاج في روسيا بين عامي 2011-2012.

فمن وجهة النظر هذه، كانت السيادة مهددة في كل مكان، وقد شرعت روسيا في مهمة دبلوماسية لدعم الأنظمة الحالية المعادية للولايات المتحدة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، مع بعض التدخل حتى في بلدان بعيدة عنها جغرافيا مثل فنزويلا، وقد جاءت ثورة أخرى في أوكرانيا بين عامي 2013-2014 كتحدي كبير لبعض المبادئ الأساسية لعقيدة الأمن الروسية، ففي الأساس، كان ينظر إليها على أنها تفتح الطريق لعضوية أوكرانيا في حلف الناتو، وبالتالي فهي تجلب حلف الناتو في غضون بضع مئات من الكيلومترات من موسكو.

ولفت موروزوف، إلى أن التدخل الروسي الناتج في أوكرانيا قد أدى إلى تدمير آخر بقايا الثقة بين روسيا والغرب، وبالتالي فتح الطريق أمام استراتيجية أكثر حزما في المسارح الرئيسية العالمية الأخرى، وقد كان تدخل روسيا عام 2015 في سوريا متابعة منطقية في هذا الصدد.

ومن كل ما ورد، يعتقد كاتب المقال بأن النجاح النسبي لهذه الاستراتيجية يدل إلى حد كبير إلى حقيقة أنه بدءا من أوائل التسعينيات، أقامت موسكو تدريجيا علاقات عمل موثوقة على أساس التوافق المتبادل بدلا من أي قيم وأهداف مشتركة، مع جميع القوى الكبرى في الشرق الأوسط.

وفي الحقيقة، وبحسب رؤية الأستاذ الجامعي موروزوف فإن روسيا ليس لديها حلفاء حقيقيين في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن نضع أفضل وصف لعلاقة روسيا بالحكومة السورية هو أنها "شريك"، في حين أن إيران وتركيا لديهما أجندتان خاصتان بهما تعارضان في بعض الأحيان أجندات روسيا بشكل مباشر، ومع ذلك، يمكن للأخيرة التعاون مع كل دولة تقريبا على أساس كل حالة على حدة، على الرغم من أنه يوجد هناك منافسة ومواجهة مفتوحة أحيانا، ولكن مع تلاشي غبار تلك المناوشات السياسية الطفيفة، يمكن استئناف علاقات العمل الطبيعية من جديد.

وأشار موروزوف، إلى أن هذا النمط المتدحرج نموذجي بشكل خاص للعلاقات الروسية-التركية، التي شهدت أزمات وتوترات ناجمة عن إسقاط طائرة مقاتلة روسية عام 2015، واغتيال السفير الروسي في أنقرة عام 2016، وتدخل تركيا في الحرب الأرمينية-الأذربيجانية على اقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه عام 2020، من بين حالات أخرى.

أما بالنسبة لعلاقات روسيا مع إيران فهي أقل تقلبا بكثير، على الرغم من وجود تنافس مؤكد بين الدوليتين، خاصة عندما يتعلق الأمر بمحاولات إيران الحفاظ على نفوذها في أرمينيا وأذربيجان وسوريا وأماكن أخرى في جميع أنحاء المنطقة، كما أن هناك مخاوف بشأن برنامج إيران النووي وعودتها الكاملة المحتملة إلى سوق النفط العالمي.

ومع ذلك، فإن هذه المخاوف لا تمنع البلدين من التعاون في العديد من المجالات المختلفة، ليس أقلها سوريا (خاصة فيما يمكن تسميته على نطاق واسع بصيغة أستانا)، والطاقة النووية، وما إلى ذلك.

بعبارة أخرى، يبين موروزوف، بأن العلاقات التنافسية غالبا بين كل من روسيا وإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ودول إقليمية أخرى ليست جزءا من الصورة الأساسية إلى حد ما فيما يتعلق بتحديد علاقات روسيا مع الغرب.

فمن بين تلك القوى الإقليمية حلفاء وخصوم للولايات المتحدة الأمريكية، وليس من غير المعتاد أن تتحول العلاقات بين القوى الإقليمية إلى عدائية علنية، وبغض النظر عن هذه الاختلافات، فإن موسكو ترى هذه الدول على أنها لاعبين عقلانيين وواقعيين يسعون وراء مصالحهم المشروعة مع احترام سيادة الدول الأخرى.

كما ويبدو أن تصرفات روسيا في الشرق الأوسط ينظر إليها إلى حد كبير على نفس المنوال من قبل نخب السياسة الخارجية في المنطقة، وربما يكون هذا هو العامل الأساسي الذي يضمن مستوى أساسي من الثقة بين حكومات دول الشرق الأوسط وموسكو.

المصدر: موقع كلية لندن للإقتصاد