أخبار

فضيحة تجسس إسرائيلي جديدة

29 تموز 2021 23:31

كتب الصحافي الأمريكي فيليب جيرالد في مقال نشره على موقع "اسْتراتيجيك كلتشر":

ربما ليس من الضروري التدليل على كيفية استمرار وسائل الإعلام السائدة في الولايات المتحدة وكذلك في أوروبا وأوقيانوسيا في تجاهل أو التستر على الأخبار التي تجعل الإسرائيليين يبدون سيئين، إذ تحاول الروايات الإخبارية الأخيرة عن قتل الطائرات والصواريخ والمدفعية الإسرائيلية أطفال غزة تصوير الصراع على أنه حرب بين خصمين مشابهين، متجاهلة التباين الهائل في القوة العسكرية المتاحة للطرفين، فإسرائيل لديها جيش وقوة جوية وبحرية حديثة، في حين لا تمتلك حماس سوى بعض الأسلحة الخفيفة إلى جانب الصواريخ البدائية الصنع والبالونات الحارقة.

ويمكن عزو الإحجام عن انتقاد السلوك الإسرائيلي في غالب الأحيان إلى قوة اللوبيات الصهيونية في البلدان المعنية، لكنه أيضاً يرجع - جزئياً على الأقل - إلى اشتراك الحكومات الغربية في التواطؤ مع تصرفات الدولة اليهودية في منطقتها. وكان إصرار إسرائيل على الحرب على إيران - التي تفضل إسرائيل أن تخوضها الولايات المتحدة - واضحاً مرة أخرى الأسبوع الماضي عندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية الجديدة أنها ستزيد ميزانيتها العسكرية تحسباً للحرب مع الجمهورية الإسلامية، وربما لا شيء يدعو للاستغراب من أن الكونغرس الأمريكي لديه أيضاً العديد من مشاريع القوانين المعلقة التي من شأنها زيادة المساعدة العسكرية لإسرائيل بمقدار ثلاثة أضعاف.

وبمعزل عن المودة العارمة للدولة اليهودية، ما فتئ السياسيون والإعلاميون في واشنطن يسعون إلى إيجاد عدو لتفسير سبب فشل سياسات الأمن القومي والخارجي، فصنفت روسيا على هذا النحو خلال سنوات الحرب الباردة الطويلة، ومؤخراً بدأ كل من البيت الأبيض والكونغرس بالتحذير من أن الصين هي التي تسعى للتصدي للمعايير الديمقراطية و"تصدير نموذجها الاستبدادي".

وبناء على كل ذلك، لا بد أن العاملين في بعض غرف الأخبار قد صدموا عندما اتضح أن الطرف المذنب وراء فضيحة تجسس جرى الكشف عنها مؤخراً هو "أقرب حليف لأمريكا وأفضل أصدقائها"، إذ يبدو أن شركة مراقبة إسرائيلية خاصة، بالاشتراك شركة أمنية تضم ضباطاً سابقين في الحرب الإلكترونية والجيش والمخابرات ولديها علاقات وثيقة مع حكومة بنيامين نتنياهو، كانت تبيع برامج تجسس متطورة لما لا يقل عن 45 حكومة. المبيعات مقيدة نظرياً لتستخدم فقط في قضايا الإرهاب والجرائم، ولكن بطريقة ما، استخدم المورد بشكل روتيني للتجسس على صحفيين ونشطاء سياسيين ورجال الأعمال وسياسيين. مثلاً، استخدمت السعودية برنامج التجسس لتعقب الصحافي المنشق جمال خاشقجي، الذي قُتل على يد عملاء سعوديين في إسطنبول عام 2018.

وعلى الرغم من استخدام البرنامج بانتظام للتجسس على مسؤولين حكوميين وصحفيين أمريكيين، يبدو أن إدارة بايدن كانت على دراية بقدراته ولم تأت على أي حركة لإيقافه. وفي محاولة للدفاع عن نفسها، زعمت شركة "إن إس أو" الإسرائيلية التي طورت برنامج التجسس أنه لم يعد ممكناً استخدامه لاختراق الهواتف الأمريكية، وهذه حجة واهية، إذ فضح زيف هذه المزاعم المخبر السابق في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن، الذي قام غرد عبر تويتر "إن ادعاء "إن إس أو" بأنه يستحيل من الناحية التكنولوجية التجسس على أرقام الهواتف الأمريكية هو كذبة مكشوفة، فالبرنامج الذي تجسس على هاتف آيفون الذي يستخدمه ماكرون سيعمل بنفس الطريقة على هاتف آيفون الذي يستخدمه بايدن، وأي شفرة مكتوبة لحظر استهداف بلد ما يمكن حذفها أيضاً، وما هذا الادعاء إلا محاولة للتستر على الفضيحة".

لم يأتِ الكشف المفاجئ عن النشاط الإسرائيلي من وكالة استخبارات حكومية مضادة، بل من مجموعة تضم 17 منظمة إعلامية دولية شكلت اتحاداً للتحقيق في تسرب بيانات الهواتف المخترقة. تضمنت المجموعة منافذ إخبارية رئيسية استهدفها على ما يبدو برنامج التجسس "بيغاسوس" الذي طورته مجموعة "إن إس أو"، والذي صمم بشكل أساسي لاختراق ميزات الأمان للهواتف الذكية. وصف مهندس أمن سيبراني سابق من مجتمع الاستخبارات الأمريكية برنامج "بيغاسوس" بأنه أداة "بغيضة" يمكن استخدامها "للتجسس على سكان العالم بأسره تقريباً". ويمكن تثبيت برنامج التجسس عن بُعد على الهاتف الذكي للشخص المستهدف دون مطالبته باتخاذ أي إجراء مثل النقر على رابط أو الرد على مكالمة. وبمجرد تثبيته، يسمح للعملاء بالتحكم بالجهاز بالكامل، بما في ذلك الوصول إلى الرسائل من تطبيقات المراسلة المشفرة مثل وتس آب وسيغنال وتشغيل الميكروفون والكاميرا". ويمكنه أيضاً الكشف عن موقع الهاتف.

وصمم البرنامج بمنفذ سري سمح لـ "إن إس أو" بالإشراف على عمليات المراقبة، ويعتقد أن المعلومات جرى مشاركتها أيضاً مع المخابرات الإسرائيلية. واستناداً إلى أحد التقديرات، تم الوصول إلى 50000 هاتف ذكي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك هواتف 10 رؤساء وزراء وثلاثة رؤساء، بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأحد الملوك ووزراء خارجية وصحفيين ومسؤولين حكوميين في كل من الولايات المتحدة وأماكن أخرى.

ويشير تقدير أكثر دقة نشرته صحيفة واشنطن بوست، التي شاركت في التحقيق، إلى أن "1000 شخص منتشرين في 50 دولة مختلفة جرى التعرف على أرقامهم في القائمة، من بينهم" العديد من أفراد العائلة المالكة السعودية، و65 مديراً تنفيذياً على الأقل، و85 ناشطاً في مجال حقوق الإنسان، و189 صحفياً، وأكثر من 600 سياسي ومسؤول حكومي". وهذا يشمل روبرت مالي، المفاوض الإيراني الرئيسي في إدارة بايدن، وصحفيون يعملون في شبكة "سي إن إن" وأسوشييتد برس وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز، ووكالات أنباء أخرى اخترقتها بيغاسوس، بينها وكالة فرانس برس والجزيرة وفرانس 24 وإذاعة أوروبا الحرة وميديابارت وإل بايس وأسوشيتد برس ولوموند وبلومبرغ وذي إيكونوميست ورويترز فويس أوف أميريكا.

لا بد أن يتساءل البعض سبب التزام بايدن الصمت بشأن "إن إس أو"، لم تحدد الإدارةُ الشركةَ الإسرائيلية على أنها تهديد للأمن القومي، وقدمت مطالب للحكومة الإسرائيلية للتوسط بينها وبين إن إس أو وإيقاف استخدام بيغاسوس حتى يجري تطوير بعض اللوائح الدولية لاستخدام برنامج القرصنة هذا. وربما يمكن تفسير هذا الإحجام جزئياً بأن شركة الاستشارات "SKDK" التابعة لمستشارة بايدن، أنيتا دَن، قد استأجرتها إن إس أو في عام 2019 لتقديم مشورة بشأن "العلاقات العامة" لتحسين صورتها.

وينبع هذا الإحجام أيضاً من حقيقة أن إسرائيل متورطة، لكن أولئك الذين يتذكرون سجل الدولة اليهودية في سرقة الأسرار الأمريكية يجب ألا يفاجؤوا بهذا المشروع الأخير. مثلاً، كان جوناثان بولارد، المحلل في البحرية الأمريكية الذي جندته إسرائيل، أكثر الجواسيس ضرراً في تاريخ الولايات المتحدة. ولإسرائيل تاريخ طويل في سرقة التكنولوجيا والأسرار العسكرية الأمريكية ومشاركتها مع الدول التي تعتبرها واشنطن أعداء، بما في ذلك الصين وروسيا.

تحتل إسرائيل مكانة بارزة دائماً في تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي السنوي الذي يُدعى بـ "التجميع الاقتصادي الأجنبي والتجسس الصناعي". يذكر تقرير عام 2005: "لدى إسرائيل برنامج فعال لجمع المعلومات الشخصية داخل الولايات المتحدة، وتهدف أنشطة الجمع هذه بشكل أساسي إلى الحصول على معلومات حول الأنظمة العسكرية وتطبيقات الحوسبة المتقدمة التي يمكن استخدامها في صناعة الأسلحة الثقيلة في إسرائيل". ويضيف أن: "إسرائيل تجند الجواسيس، وتستخدم الوسائل الإلكترونية، وتخترق الكمبيوترات للحصول على المعلومات". ولفت تقرير دائرة التحقيقات الدفاعية لعام 1996 إلى أن: "إسرائيل حققت نجاحاً كبيراً في سرقة التكنولوجيا عبر استغلال كثير من مشاريع الإنتاج المشترك التي بدأتها مع البنتاغون". ويقول التقرير أيضاً: "إن وضع مواطنين إسرائيليين في الصناعات الرئيسية هو أسلوب ناجح إلى كبير". وبينت مراجعة "مكتب المساءلة العامة" لعمليات التجسس الموجهة ضد الصناعات الدفاعية والأمنية الأمريكية كيف: "سرق مواطنون إسرائيليون مقيمون في الولايات المتحدة تكنولوجيا حساسة لتصنيع ماسورات مدفعية، وحصلوا على خطط سرية لأنظمة استطلاع، وسربوا تصميمات فضائية حساسة إلى مستخدمين غير مرخص لهم". وخلص مكتب المساءلة العامة إلى أن: "إسرائيل تنفذ ضد الولايات المتحدة أكثر عمليات التجسس عدوانية من أي حليف آخر". وفي الآونة الأخيرة، أفاد جون كول، وهو ضابط مكافحة التجسس التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي، عن عدد قضايا التجسس الإسرائيلي التي جرى إسقاطها بموجب أوامر من وزارة العدل. وقدر بتحفظ وجود 125 تحقيقاً قابلاً للتطبيق في قضية التجسس الإسرائيلي - الذي يشمل مواطنين أمريكيين وإسرائيليين - والتي أوقفت جميعها بسبب الضغط السياسي.

إذن تحصل إسرائيل على جواز مرور آخر في تجسسها على الولايات المتحدة. في الواقع، لم تعلق إدارة بايدن بشكل قاطع على المخالفة الأخيرة، لذا يتساءل المرء متى سينتبه الشعب الأمريكي لما يجري وينتفض عليه، ويقول "لقد بلغ السيل الزبى".

اسْتراتيجيك كلتشر