علوم

هوبز ولوك.. ومشاكل الاقتصاد السياسي

10 تموز 2022 17:15

في الزمان والمكان اللذين نعيش فيهما، نُحاجّ بشدة بشأن العلاقة بين المصالح العامة والخاصة. ويدور موضوع هذا الجدل حول التعليم والصحة وتحديد النسل والطاقة والبيئة والنقل والرعاية الاجتماعية – ونحو أي قضية محلية تقريباً. وتُناقش هذه الجدالات إجمالاً إن كانت المسألة المطروحة تتعلق بالسياسة العامة بالضبط، فإن كانت كذلك، تناقش إن كانت المقاربة الأفضل لمعالجة هذا الشاغل هي من خلال العمل العام أو الخاص. وللجدال حيال ما يُعدّ بالضبط شاغلاً عامّاً وما يُعدّ شاغلاً خاصاً بالضبط - وبالتالي حيال مدى سلطة الحكومة والدفاع عن المسؤولية الشخصية والحرية - تاريخٌ طويلٌ في أمريكا. إنه إرثٍ من تأسيسنا، ومن الأصول الفكرية لهذا التأسيس. وتُفضّل هذه الأصول الفكرية في أحيان كثيرة هذه المشاكل الدائمة أكثر مما نُفضلها نحن اليوم. وهكذا، يُمكننا أن نَفهم جدالنا، بشكل أفضل، من خلال النظر بجذوره الفكرية في النظريات السياسية الثورية التي ظهرت في القرن السابع عشر في إنكلترا، وفي فهمنا للعلاقة الملائمة بين المصالح العامة والخاصة في ذلك الزمان والمكان.

ولن نجد حلاً سهلاً لمشكلتنا أمام تلك النظريات. فمشكلة العلاقة بين المصالح العامة والخاصة، تشابه تماماً مشكلة العلاقة بين المجتمع والفرد، هي إحدى المشاكل الأساسية للعدالة السياسية، كما أنها المشكلة التي واجهها الفلاسفة ورجال الدولة لأكثر من ألفي عام. لكن المفكرين الحداثيين، أمثال توماس هوبز وجون لوك، سلطوا الضوء على هذه المشكلة، وعدّوها مسألة تتعلق بالاقتصاد السياسي. وتساعدنا التباينات (والتشابهات) بين هذين المُفَكرَين على رؤية الصعوبة التي نواجهها بشكل دقيق. يقود هوبز ولوك سَويّةً مناصريْ كلا الجانبين نحو تقديرٍ أفضل للانحياز لمواقفهما، ونحو فَهْمٍ أفضل لادعاءات الطرف الآخر. ورغم جميع اختلافاتهما، يُدرك هوبز ولوك أن لا وجود لهويةٍ بسيطة للمصالح أو الحقوق العامة والخاصة.

ويقَرنُ هوبز ولوك معاً في أحيان كثيرة، إذ إنهما فيلسوفان إنكليزيان عاشا في القرن السابع عشر (رغم أنّ جيلاً يَفصل بينهما)، وكلاهما من مُنظري الحالة البدائية الذين يَتَلفَّظون بتعاليم المساواة الطبيعية والحرية الطبيعية، وكلاهما يَصف المجتمع المدني والحكم بأنهما نِتاجان من صنع الإنسان.

كما أنهما يتباينان كثيراً (وتُعَدُّ اختلافاتهما المتعلقة بأصل الملكية الخاصة من بين أهم هذه التباينات) . ومع ذلك، فإن ما نعدّه في كثير من الأحيان اختلافات بينهما يجعل تعاليمهما غامضة، ويجعل كلاً منهما أقل إثارة للاهتمام مما هو عليه في الواقع. مثلاً، يُعطي كل من هوبز ولوك وصفاً لحالةٍ بدائيةٍ ما - حالةٌ قبلُ سياسية، وربما يُقصد من الناحية الأنثروبولوجية (فترة تاريخية تعود لزمنٍ بعيد)، أو ربما حالة افتراضية (كيف ستبدو حياة الإنسان دون وجود سلطة الدولة). ويشرح هوبز أنه في الحالة البدائية لا يوجد مفهوم "بحوزتي أو بحوزتك"، و"لا مكان للصناعة في مثل هذه الظروف، لأن العائد غير مضمون، وبالتالي، تنعدم زراعة الأرض.. ولا يمكن توسيع مجال العمران.. ولا مجال لنشوء معرفة بأديم الأرض" . وحسب هوبز، فإن حالةَ الحرية المطلقة والمساواة - أي وضعنا الطبيعي غير الخاضع لأي سلطة حكومية - هي حالةُ حرب؛ أي: حرب الكلّ على الكلّ، والتي ينتج عنها حياة "منعزلة، وفقيرة، ورديئة، وهمجية، وقصيرة" . غير أن لوك يصف الحالة البدائية بأنها تشمل الحق الطبيعي بحيازة ملكيّات، وبالتالي فهو جزء من العدالة الطبيعية. ويَفصل لوك بعناية الحالة البدائية عن حالةِ الحرب، ويصف الحالة البدائية، في البداية، بأنها حالة من "الحرية المطلقة" و"المساواة" تخضع لـ "قانونٌ طبيعي" يُعلّم كلّ شخص أنْ "ليس لأحدٍ أنْ يُسيء لآخر" . وفي وصفه "الاختلاف الواضح" بين الحالة البدائية وحالة الحرب، يكتب لوك أنهما "متباعدتان كل البعد، كبعد حالة السلام والنية الطيبة والحفاظ على النوع عن حالة العدوان وسوء النية والعنف والرغبة المتبادلة في التدمير" .

لذا يبدو هوبز ولوك مُتباينَيْن تماماً في وصفهما وضعنا الطبيعي، ما يدفعهما لمعالجة مشاكل مختلفة جداً. اهتم هوبز بنزوعنا الطبيعي نحو الفوضى والحرب، وكان عليه أن يُفسر طريقة الوصول إلى السلام. وتبعاً لهوبز، تكتسب صيانة النظام العام ضرورةٌ قصوى، وتتطلب سيادة مطلقة تقريباً. أمّا لوك، الذي بدأ بطريقة مسالمة، شرح أن الحالة البدائية، التي يَعوْقها برأيه بعض "المتاعب"، تتداعى لتصبح حرباً. ولكن هذا يعني أن لوك أمكنه تَصَوُّر حالة لا مكان للسياسة فيها، وهي حالة يَصلح العيش فيها على أقل تقدير. وصيانة النظام العام هي "نعمة" بكلمات لوك، علماً أن لوك لم يستخدم في رسالته الثانية كلمة "السيادة المطلقة" سوى مرتين فقط .

وبناء عليه، يَختلف هوبز ولوك في وصفهما السياسة التي تنبثق من هذا الوضع الطبيعي. ولمعالجة مشكلة حالة الحرب - حالة الاضطراب الطبيعي أو الفوضى - أشار هوبز إلى أن على كل دولة أن تطالب بسلطة مطلقة، وأن تُمنح إياها، وإننا ببساطة نخدع أنفسنا إنْ اعتقدنا أن السياسة تَعمل بطريقة مختلفة. وأي أمرٍ أقلُّ من الاعتراف بالسلطة المطلقة للحاكم - إنْ أردنا مثلاً أن نُعلن الولاء للحاكم في بعض الحالات، ولله في أُخرى - لن ينتج عنه إلا انشقاق وحرب أهلية في النهاية . من ناحية أخرى، يُجادل لوك بوجوب أنْ يقوم الحكم على موافقة المحكوم، ويجب أنْ تُنظّمَ السلطة السياسية دستورياً داخل نظام، كنظامٍ للفصل بين السلطات، وضوابطَ، وموازين. وحيث يُؤكد هوبز على سلطة الحاكم، يؤكد لوك على أولوية السلطة التشريعية. وإشارتا لوك إلى "السيادة المطلقة" في رسالته الثانية هما أولاً مثالٌ على شيء لم يمنحه الله لأي شخص، وثانياً توضيحٌ بأنّ الحاكمَ المطلق هو اللهُ وحده .

ومع ذلك بدأ رأي هوبز السياسي ببيانٍ عن الحرية والمساواة الطبيعيتين - وهما أساسان مترابطان للسياسة الليبرالية – إذ أسّس هوبز لتعاليم حصيفة بناها على أهمية احترام حريات الرعية. ولدى المحكوم، برأي هوبز، الحق في صون نفسه - حتى لو كان من يُهددها هو الحاكم بذاته. ويُدرك هوبز أنّ هذا الحق سيُستخدم للسماح بالاضطراب الذي يَسعى لمعالجته. لذا يرى أن الحزم تعلّم، بالرغم من تمتّع الحاكم بسلطة مطلقة، سيادةَ القانون (وهي ليست مجرد إرادة مَلَكية)، والتأسيسَ لعملية طعونٍ قضائية، وممارسةَ صلاحيات العفو، وضمانَ حقوق الملكية الشرعية - وكلُّ ما يُخفف من خطر التمرد .

وفي النهاية، أسّس لوك، الذي أكّد أصلاً على المساواة والحرية الطبيعيتين وحكمٍ يحترم حقوق الأفراد، مذهباً يقوم على سلطة واسعة. يطرح لوك، في كتابه "مبحث في الفهم الإنساني"، مثالَين عن المقترحات الأخلاقية القادرة على تقديم حُججٍ علمية: أولهما هو "حيث لا يوجد ملكيّات، لا يوجد ظلم"، والثاني هو "لا يسمح أي حكم بالحرية المطلقة" (لأن "فكرة الحكم" بحد ذاتها هي أن تَحكُم بـ "قواعد أو قوانين معينة تتطلب المواءمة" . ومن وجهة نظر لوك، نَكادُ نتخلى في نظام الحكم عن حقنا الطبيعي في صيانة النفس "ليتم تنظيمها بالقوانين التي وضعها المجتمع" . كان لوك واقعياً من الناحية السياسية؛ فأصبح عنده مبدأ القبول "ضمنياً، ونادراً ما يُمكن تجنبه"، وعبّر عنه عملياً ممثلو الأغلبية وليس الأفراد المستقلين. والصلاحيات التنفيذية التي يصفها لوك قريبة جداً من تلك التي يتمناها هوبز، والتي يُقيدها لوك بالاعتبارات الحصيفة أكثر من نُهج الحقوق . وفي مثال لوك، قد يكون من الضروري هدم "منزل شخص بريء لوقف النار، عندما يكون البيت المجاور له هو الذي يحترق" . يُدرك لوك، بالاتفاق مع هوبز، أن السياسة الليبرالية تعمل، كأي نظامٍ آخر، على تشكيل طباعنا السلوكية، وحتى عاداتنا في التفكير (رغم أن الطبائع والعادات المحددة التي تطبعها الليبرالية في الأذهان قد تكون مختلفة).

وعند البحث والتقصي، بدا التشابه في الأسس النظرية للحكم المطلق والليبرالي أكثر إثارة للقلق من اختلافاتها. وعندما تفهم السلطة السيادية دروس الحصافة، فإنها تجعل نفسها معتدلة. وفي الواقع، تنطوي الليبرالية الكلاسيكية على ممارسة هادئة للسلطة السياسية الفعلية.

حالة حقوق التملك

لا يزال هناك اختلاف آخر بين الفيْلسوفَين، وهو الذي يصوغ اعتبارات كلٍّ منهما حيال الحالة البدائية، ويصوغ تعاليمها السياسية أيضاً. ويكمن هذا الاختلاف في معالجاتهما لأصل حقوق الملكية وحجمها. إذ يُصرّ هوبز على أن الملكيّات ليست طبيعية، بل هي من إبداع الحاكم، وتخضع للقبول والسلطة السياسية، ولذلك ينبغي أن يتوقّع القرّاء ممارسة واسعة لسلطة الحاكم على الملكيّات الخاصة التي أبدعتها، أما لوك فيُصرّ على أن حقوق الملكية طبيعية، ويمكن الحصول عليها دون موافقة الغير أو موافقة السلطة السياسية، لذا على القراء أن يتوقعوا تعليلاً لكيفية عمل تلك الحقوق للحد من تدخل الحكومة بالشؤون الخاصة. ويحمل هذا الاختلاف في طياته أحد أهم الآثار: هو أصل حقوق الملكية وحالتها، والذي يُميّز الفرق الأساسي بين النظام السياسي الاستبدادي والنظام الليبرالي .

يأبى هوبز أن يعتبر حقوق الملكية طبيعية. فلا يوجد في الحالة البدائية قانون "بحوزتي وبحوزتك"، وليس فيها ملكيّات . بالفعل، في ذاك الوضع الأصلي "لكل فردٍ حقٌّ في كل شيء، بما فيه الحقّ في جسد الآخر" . وكما نتصور، فإن هذا الوضع من الحق غير المنظم "يُسبّب الحروب بالضرورة" . والسلطة السياسية، قياساً لهوبز، ضرورية لتأسيس الملكيّات وتأمينها؛ فالنظام يَسبق الازدهار. ودون "قوة رادعة" تُؤمِّن الملكيّات بموجب القانون، لا يُمكن أن يتم الازدهار . يقول هوبز: "إن استحداث الملكية كان نتاج الكومنولث*" . والحاكم هو الذي يُوفّر "إمداداً" لمبادئ الملكية، وقوانين ما بحوزتي وحوزتك، وهو الذي يضع قواعد العقود والمقايضة . لذا "أنشأنا سلطةً مشتركة" لصون نتاج "صناعتنا" . وبالتالي من مصلحتنا الإقرار بإنشاء السلطة السياسية .

ورغم أن هوبز يرفض إنشاء مؤسسة عدالة طبيعية تضمن احترام حقوق الملكية الخاصة، إلا أن تعاليمه السياسية الحصيفة تَهدف إلى علاج الحالة "الرديئة" للحالة البدائية عبر سن قانون الملكية الخاصة. والسياسة الاقتصادية التي تَبِعتْ ذلك نَظّمتها السلطة السيادية مباشرة وفقاً للغايات العامة، ووُجّهت نحو صون مرابح الصناعة الخاصة . فمن جهة، سيتنازل الحاكم عن ملكية الأراضي بطريقة "تناسب العدل والصالح العام" ، ويذكرنا هوبز بأنه رغم أن حقوق الملكية الشرعية الحديثة ستمنع التدخل بشؤون الرعايا، إلا أنها لن تُقصي سلطة الحاكم . كما يذكرنا هوبز بأن الحرية لا تعني "الإعفاء من حكم القانون" . بل هو الهدف من سن القانون المدني لتقليص الحرية الطبيعية وضبطها .

من جهة أخرى، رغم أن الكومنولث قد تحتفظ بجزء من الأرض، وتأمر بزراعتها وإنمائها (بمعنى أن الدولة قد تدخل مباشرة في النشاط الاقتصادي)، إلا أن هوبز لا ينصح بذلك . لقد جعل هوبز احترام حقوق الملكية وصيته السادسة بشأن المجتمع المدني . أما الملكية العامة لوسائل الإنتاج فتُجازف بأن يُكلّف خطأ واحد كل شيء، وأيُّ محتكر سيُصبح مهملاً. علاوة على ذلك، فإن مثل هذا المصدر الواسع من العائدات يُهدد توسع الحكومة غير المحدود، و"الكومنولث لا تتحمُّل أيّ قيود" . وعوضاً عن الملكية العامة وإدارة الاقتصاد، يوصي هوبز بـ "المساواة في فرض الضرائب" لإمداد الكومنولث بالإيرادات للدفاع عن نفسها، ومن أجل برامج الإحسان العام . ويقصد هوبز بـ "الفرض المتساوي" الضرائبَ التي تتناسب مع "الدَّين الذي يَدين به أي فرد للكومنولث لحمايته" . ولأن الأثرياء يحصلون على مكسب إضافي "باستخدامهم الفقراء لخدمتهم"، يُجادل هوبز أن على الأثرياء المساهمة بضرائبهم في الدفاع عن الفقراء وصيانتهم. ويشير هوبز إلى انتفاء إمكانية التعويل على الإحسان الخاص لأداء الوظيفة العامة للإحسان، لأنه مقيدٌ بالمصالح الخاصة إلى حدٍّ كبير . لكنه يصرُّ أيضاً على وجوب أن يُطالبَ مُتلقو الصدقات المؤهلون جسدياً بالعمل، ربما من خلال استيطان أراضٍ جديدة .

تَمرُّ معالجة هوبز للاقتصاد السياسي بثلاث مراحل: أولاً، الملكية الخاصة من تأسيس الحاكم، وبالتالي تخضع تماماً لسلطة ذلك الحاكم. ثانياً، يُشير هوبز إلى أن التدبّر السياسي سيقود الحاكم إلى كبح نفسه عن التدخل الواسع في الحياة الاقتصادية الخاصة. وثالثاً، يُقدّم هوبز عوضاً عن ذلك نظام الضرائب المتناسبة والإحسان العام.

بالمقابل، يُصرّ لوك على أن حقوق الملكية طبيعية، وأن لكل فردٍ، بحكم الطبيعة، حقاً من حقوق الملكية لا يتوقف أبداً على موافقة الآخرين. وبعبارة أخرى، لا نحتاج إذناً من أحد لبناء ملكيّاتنا، ولا حتى إذناً من السلطة الحاكمة . وتقبع الملكية الطبيعية لكل فردٍ بحد ذاته و"الرغبة الأولى والأقوى"، أي الرغبة في "حفظ الذات"، في جوهر اعتبار لوك. وتلك الرغبة هي "أساس الحق لدى المخلوقات" . ويتوخى لوك من الحرية الطبيعية للأفراد أن تكون حقّ ملكية بحد ذاتها. والواقع أن لوك يُعرّف "الملكية" كحقّ في الحياة والحرية، وكذلك في الممتلكات، وهو يعتقد بهذا الرأي منذ بداية رسالته الثانية تقريباً إلى نهايتها تقريباً . ومجال الملكية الخاصُّ هذا هو جزءٌ من تعريف الإنسان، وضروري للأساس السياسي عند لوك. ويولّد العمل - حتى العمل على الذات - مفاهيم العدالة والحقوق ، فحين يعمل البشر فإنهم يُولّدون حقوقاً في الممتلكات - وتصبح الملكية خاصة لأنّ العمل يخلطُ "شيئاً" من العامل مع المنتَج . وتبعاً للوك، فإن حقوق الملكية الطبيعية هذه تضع حداً أمام مدى وصول السلطة السياسية، وتزيد من مطالبة الأفراد بممارسة أحكامهم الخاصة.

كان لوك فخوراً بنظريته عن الملكية، وقد أفضى هذا الفصل [في كتابه] إلى تشكيلة غنية من التعليقات . فقد ذكّرنا لوك ست مرات بوضعنا من "مستهلِّ" هذا الفصل . ويمكن تتبع التاريخ التجاري بأكمله عند لوك من خلال "البدايات" التي حدّدها المؤلف . "في البداية الأولى" كانت الأرض وثمارها مشتركة، ولكن الله، وحاجاتنا، أمرَ الإنسان بالعمل . ونتج عن ذلك العمل حقوقٌ وملكيّاتٌ خاصة. و"في بدء الخليقة"، لم يكن يوجد سوى قلّةٍ قليلة من الناس، وبالتالي، ترك هذا الاستملاك الناتج عن العمل ما يكفي للآخرين وصبّ في مصلحتهم . وكتب لوك في بعض المواضع، أنه قد يَصُحّ ذلك في وقتنا الحالي، ولكن اختراع النقود والموافقة على استخدامها أدخل مفهوم الحقٍّ في ملكيّاتٍ أكبر مما يُمكن للمرء استخدامه. وتمّ إزالة مشكلة التلف، وأصبح المرء قادراً بالمال أن يُولّد مزيداً من العمالة أكثر مما هو قادرٌ على القيام به بنفسه، عبر دفع أجورٍ للآخرين . زاد هذا الاختراع الازدهار وحسّن حال أدنى عامل حتى، ما مكّنه من العيش الآن فوق مستوى الملك البدائي (ويشير لوك إلى أنه عندما تمّ تخصيص كافة الأراضي، ربما كان من الضروري الحفاظ على "أرض مشاع" عامة متاحة ليستخدمها أولئك الذين ليس لديهم أرضٌ خاصة بهم) . "في البداية الأولى" لم يرغب البشر بأكثر مما يحتاجون، لكن الذهب غيّر ذلك . وأصبح البشر والأرض، في وقتٍ ما، أكثر إنتاجية، كما جمّعوا ثروة أكثر مما كان ضرورياً في الحالة البدائية. أما "في بدء الخليقة"، فلم يَحتجْ قابيل وهابيل إلا لبضعة فدانات، لكن زيادة عدد السكان أدتْ إلى زيادة الحاجة لحدودٍ سياسية . "في البداية الأولى"، منح العمل حقاً في الملكية، لتخصيص ما كان مشاعاً، ولكن عندما تضاءلت مساحة الأرض، بدأ البشر بتحديد حدودها السياسية ودافعوا عنها. ووضع البشر، في إطار تلك الحدود، قانون الملكية الخاصة، لتسوية حقوق الملكية التي بدأتها الصناعة . ويرى لوك أن التوظيف السليم للعمالة والموارد أصبح الآن "فن الحكومة العظيم"، وأن الحاكم "ذا السلطة المطلقة" سيستخدم "قوانين الحرية المعمول بها" من أجل "حماية وتشجيع" العمل والصناعة .

ورغم أن الحالة البدائية عند لوك تبدو أنها تتسم بالقانون وحسن النية، إلا أن "المرء وممتلكاته" في الحقيقة "يتعرضون لانتهاك الآخرين باستمرار" . ودون المجتمع السياسي - أي الحماية التي يؤمنها والعملة التي يُتيحها - لن يكون لدى البشر ميل للعمل فوق احتياجاتهم العاجلة. وفعل ذلك يعتبر أمراً غبياً . ولكن عندها، يجب أن يُؤْمِن لوك، مع هوبز، أنه في الوضع الطبيعي ليس هناك ما يؤمن سلامة للصناعة. فالدفاع عن الممتلكات، حسب مفهومه الواسع، هو الذي ينقلنا من الحالة البدائية إلى حالة الحرب ، وفي تلك الحالة لا وجود للسلطة الحاكمة لتسوية المسألة، و"حالما تبدأ حالة الحرب، فستستمر" . لذا أنشأنا السلطة الحاكمة لنتجنب حالة الحرب هذه . في الحقيقة، يخبرنا لوك بأن "ليس للسلطة الحاكمة غاية أخرى غير صون الملكية" (أي الحياة، والحرية، والممتلكات) . وحسب اعتبار لوك، لا نحتاج الحكومة إلا لضمان سلامة نتاج عملنا.

وليس علينا سوى النظر في معالجة لوك لمسألة السلطة التشريعية حتى نُدرك أن العمل في تأمين الملكيّات الخاصة، مع النهوض بالصالح العام، سيؤدي، حقيقةً، إلى خلق توتر متأصل بين الاثنين. في وقت مبكر إلى حد ما، عندما بدأ لوك بتكوين بيانٍ سليمٍ عن الحكم، نبهنا إلى أن الغرض من المنظمة السياسية هو الحفاظ على حرية وممتلكات الأفراد، وأن السلطة التشريعية "ملزمة بتأمين ممتلكات الجميع" . وفي نهاية كتابه تقريباً، ذكّرنا لوك مجدداً بهذا المبدأ، وأضاف إنه عندما ينتهك التشريع ملكيّات الشعب بصورة تعسفية (في هذه الحالة "الحياة أو الحريات أو الثروات")، فإنه يُبطل سلطته السياسية الشرعية . لكننا نجد في تفاصيل الدستور الذي وضعه لوك تسويغاً لوجود سلطة سياسية أوسع نطاقاً بكثير تتحكم بالملكية. وفي حين يُقيّد لوك السلطة التشريعية بطريقة "لا تُخولها أن تأخذ من أيِّ فردٍ أيَّ جزءٍ من مُلكه دون موافقته" ، إلا أننا نتعلم في فترة وجيزة أنه لا يمكن أن يُؤخذ أي جزء من ممتلكات الرعية دون "موافقتهم" ، ثم أن على مالك الممتلكات أن يَمنح "موافقته، أي موافقة الأغلبية"، أو حتى موافقة مُمثلي الأغلبية .

مخاطر الهيمنة الخاصة

يتجلى بوضوح في أعمال كِلا المُفَكرين الاعتراف بأن المصالح الخاصة لا تنسجم مع المصالح العامة بهذه البساطة. ويتركز قلق هوبز على مشكلة الاحتكارات التي يدعوها بالداء الخاص الذي يُهدد المصالح العامة ، أما لوك فيوجّه انتباهه نحو مشكلة الهيمنة الاقتصادية، والطرق التي قد تستخدمها سلطة الثروة الخاصة في توليد الهيمنة السياسية على الحياة والحرية. ويبدو أن كلاً من المُفَكرين يتصور مجالَ الاقتصاد السياسي - المواجهة بين الحقوق الخاصة والمصالح العامة - كمشهدٍ من المنافسة السياسية الدائمة.

حسب هوبز، نحتاج السلطة الحاكمة لتُجيز الملكية، ولكنه يُخبرنا بأن "الميل العام للجنس البشري هو الرغبة الدائمة، التي لا تَكلّ، باقتناء السُلطة بعد السُلطة، ولا تنتهي إلا بالموت" . هذه الرغبة باقتناء السلطة لديها مظهر اقتصادي ومظهر عسكري . فيُصوّر هوبز ثلاثة أسباب طبيعية للحرب، وهي المنافسة، والانعدام المتبادل للثقة، والغطرسة. وحتى لو تمت إدارة المنافسة عبر تأمين نتاج الصناعة النزيهة، ولو حلت مشكلة انعدام الثقة المتبادل أو الخوف عبر تأسيس دولة ذات سيادة، فستبقى مشكلة الغطرسة أو التكبّر . ومن أمثلة هذا التكبّر مبالغة الفرد في تقدير قَدْره، أو الإيمان بأن على قيمة الفرد الاقتصادية أن تكون أساساً للسلطة السياسية . وبالتالي، تُطالب المصالح الخاصة، بصورة روتينية، بالسلطة في المجال العام.

لداء المصلحة الخاصة عواقبُ على المصلحة العامة. فأحدُ "أمراض" الكومنولث هو عدم قدرته على جمع إيرادات كافية، وهي حالة تنشأ "عن الرأي القائل بأن كلّ فردٍ يملك أراضيه وأمواله، ممّا يحرم الحاكم المطلق من حقّ استخدامها" . وميل الفرد إلى تقديم مصالحه الخاصة يُصبح أسوأ عندما "تتركزُ" ثروة الدولة "بشكل مبالغ به بيد شخص واحد أو حفنة من الأشخاص، عبر الاحتكار أو عبر إيجار الموارد العامة" . يشعر هوبز بقلقٍ من أنْ تخلق الحياة الصناعية الجديدة، مستقبلاً، مراكزَ سلطة مستقلة عن الحاكم، وتكون قادرة على التصرف بما يتعارض مع الصالح العام. ويحذّر بأن هذه هي حالُ الاحتكار. يرمي الاحتكار إلى "الربح الخاص لكلّ من جازفوا بأموالهم"، فيُحددون الأسعار بطرق "تُسيء للناس" وليس إلى "النفع المشترك للمجموع كاملاً"، ويحرضون الخلاف مع السلطة السيادية . ويخشى هوبز من أن يميل مفهوم الحق الخاص في الملكية، الطبيعي والمطلق - الذي يُبعد حق الإرادة السيادية - إلى حلّ الكومنولث نفسه. "إنْ استُبعد حق الحاكم المُطلق، فلن يتمكّن من أداء المهمة المُوْكلة إليه" .

في نفس الوقت، لا يتخلى هوبز عن رعاياه ببساطة لصالح الإرادة التعسفية والمستبدة للحاكم المطلق. يحتفظ الرعايا "بحرية حقيقية" تُقيدها الأهداف التي شكّلت المجتمع السياسي في البداية. وتشمل هذه الأهداف السلام والدفاع، بما في ذلك الدفاع عن نتاج الصناعة . وهكذا يحتفظ الرعايا بالحقوق للدفاع عن أنفسهم ومقاومة الإكراه والسَجن . وعندئذٍ، فإن ما على هوبز أن يتصوره، فيما يتعلق بقلقهِ من إنشاء السلطة والنظام السياسي، هو عملية سياسية دينامية تشمل اعتراف الحاكم بقيمة الملكية الخاصة حتى عند تأكيده على الأهمية الأساسية للصالح العام والنظام العام .

ودفاع لوك عن حقوق الملكية، إنْ تم فهمه بشكل صحيح، هو جوهر تعاليمه السياسية، لكن لوك، كهوبز، يعترف بالفاصل بين الميزة الخاصة و"الصالح العام". فحسب لوك، نحتاج إلى الحكومة لتأمين الممتلكات التي امتلكناها بصورة طبيعية. إن "فن الحكم العظيم" هو تأمين "الصناعة النزيهة" عبر "قوانين الحرية المعمول بها" . ومع ذلك، في كتابه في مجال التعليم، يُخبرنا لوك أن هناك رغبتان مقترنتان نلاحظهما عند الأطفال (ونحن نعلم أن هاتين الرغبتين موجودتان لدى البالغين). إحداهما الرغبة في الحرية، والأخرى هي الرغبة في الهيمنة. ويقول لوك إن الرغبة في الهيمنة تُنتهج بطريقتين. أولاً، يمكن السعي إليها عبر جعل الآخرين يُسلمون أمرهم لإرادة شخص واحد، وثانياً عبر "الملكية والحيازة اللتين يبدو أنهما تمنحانهم سلطة يُمتّعون أنفسهم بها" . يقول لوك في رسالته الأولى إن "الهيمنة الخاصة" على الممتلكات لا تُعطي "سيادة للحاكم" . ويضيف أن ملكية عقار ما هي مسألةٌ تختلف بشكل جوهري عن الحكم السياسي. فالأملاك موجودة "ليتصرف بها المالك كما شاء، حتى وإنْ قرر تدميرها". ومن جهة أخرى، وُجدت السياسة لـ "حماية المحكوم ولتعود عليه بالنفع" . يبدو أننا نواجه هنا معيارين من معايير التقييم: حقوق الأفراد ومصلحة المجتمع. وكما لاحظ الفلاسفة السياسيون منذ أفلاطون، لا يتلاقى هذان القطبان بسهولة.

وما يتوقعه لوك هو منافسة سياسية دينامية معلَّقة بين مصالح أو زُمر متنوعة. فالحق الطبيعي بالملكية متأصل في حق الفرد في صون ذاته ؛ وما يدفع الأفراد إلى الدخول في المجتمع المدني هو الحفاظ على ممتلكاتهم . ولكن حسب تقدير لوك، يحقّ للمجتمع صون نفسه، بل لديه حتى "حقٌّ أصلي وفطري" في صون نفسه . كما يُدرك لوك جيداً أن "قضايا رجال القطاع الخاص"، حتى عندما يكون لهؤلاء الرجال "حقٌّ"، لن تحرك "جسد الشعب" ، وأن "أمثلة الظلم أو الاضطهاد" قد لا تشعر بها الأغلبية . ووصف لوك حالة سياسية تُؤدي فيها عجرفة الحكام إلى "تمرد رجال القطاع الخاص" وتمرد الزُمر. أحياناً، تُمثل هذه الزُمر دفاعاً عن الحقوق الخاصة ضد الاضهاد؛ وتمثل في أحيان أخرى تقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة . والتنافس السياسي على هذه المطالب المتضاربة للمصالح العامة والخاصة، كما يتصورها لوك، لم تتم تسويته نهائياً، ولن تتم تسويته أبداً، لأن لدى المصالح العامة والخاصة مطالبة مشروعة بهذا الحق.

الليبرالية والازدهار الإنساني

يَطرح هوبز ولوك، مؤسسا الليبرالية الكلاسيكية في العهد الحديث، تعاليمَ لوضع طبيعي يتسم بالحرية والمساواة. وثَبُت أن هذا الوضع الطبيعي واهٍ، وسيتحول سريعاً إلى حالة حرب، حيث يدافع كل شخص عن مصالحه الخاصة، لا سيما المصالح المادية المتصلة بحق صون الذات. وكرد على حالة الحرب الطبيعية تلك، تُطالَب ما تُسمى بالحكومة الليبرالية باحترام الحقوق الطبيعية الخاصة وصونها، وبتخفيف أو تنظيم الدفاع عن تلك الحقوق. أي أننا نطالب بالحرية، وكذلك بدفاعٍ أمام سيطرة الآخرين. فالملكيّات، بمفهومها الواسع، تدعم حقوق الأفراد في إدارة شؤونهم، وتلك الحقوق تُساعد في وضع حدّ لمطالب الآخرين أو للسلطة الحاكمة.

فمن جهة، يستند الدفاع عن الملكية الخاصة إلى مبادئ، ويتطلب حزْماً. ومن جهة أخرى، يُقدّم هذان المفكران المؤسسان تقييماً واقعياً للعلاقة بين الملكية الخاصة والمصالح العامة. وسعي الفرد لتحقيق ثروة خاصة قد يصب في مصلحة الجماعة. ويتوقع هوبز ولوك أن ينشغل مُفكرون لاحقون بهذا الشأن. ولكنهما ينصحاننا بألا نخدع أنفسنا بالإيمان بتناغم سهلٍ بين المفاهيم العامة والخاصة للمصلحة. فالحياة المدنية تتميز بأنها تنافس ديناميكي للدفاع عن هذه المصلحة. وبقدر ما ستساهم السلطة العامة في صون القطاع الخاص، والقوى الخاصة في تحقيق المصلحة المادية للشعب، سيعمل كل منهما على تفحص الآخر وموازنته (أو إعاقته).

وليس واضحاً بتاتاً ما إذا كان هذا النظام سيُقدم وصفاً غنياً للازدهار الإنساني. فأحد مفارقات الليبرالية الحديثة هو أنها تضمن مجالاً من الخصوصية يُمكن للأفراد فيه البحث عن مفاهيم خاصة للمصلحة، فيما يبدو أيضاً أنها تقوّض المطالب بالمصالح المطلقة. عند هوبز، "الخير والشر" اسمان يُعبّران لدينا عن "الشهية والتجنّب" . وبالمثل، في كتابه "مبحث في الفهم الإنساني"، يُعيد لوك صياغة "الخير" و"الشر" بمعنى "اللذة" و"الألم" . ويُلاحظ آلان رايَن أن هوبز انفصل عن وجهة النظر الغائية الكلاسيكية للطبيعة البشرية وازدهارها. ويخلص رايَن إلى أنه لا يوجد، بالنسبة لهوبز، غاية عظمى يسعى إليها البشر، بل هناك شرٌّ أعظم يبتعدون عنه . إن الخوف من الموت، وليس مفهوم الخير، هو الذي يحفز الفعل. وفي فقرة مشهورة من كتابه "مبحث في الفهم الإنساني"، يقول لوك: "استعلم الفلاسفة القدماء، عبثاً، ما إذا كانت الغاية العظمى تنحصر في الثروات، أو المتع الجسدية، أو الفضيلة، أو التفكّر، وربما اختلفوا فيما بينهم حول ما إذا كانت أفضل نكهةٍ هي نكهةُ التفاح أم الخوخ أم الجوز"، فبعض النكهات "تجلب أعظم متعة" أو "سعادة " لأحد "الأفواه"، ونكهات أخرى يستسيغها فمٌ آخر . ويوصي لوك بأن هذا "قد يكشف لنا سبب أنه رغم أن جميع رغبات البشر تميل إلى السعادة، إلا أنها لا تتحرك بفعلِ أمرٍ واحد. وقد يختار البشر أشياء مختلفة، مع ذلك فإن جميع اختياراتهم صائبة" .

في إشارة ثانية عن الغاية العظمى في كتابه، يستفيض لوك بالحديث عن فكرة الخير باعتباره مسألة ذوق شخصي، لكنه عدّل وصفه فيها. يخلص لوك إلى أن "الأخلاق هي العلم المناسب، وأنها تُهِمُّ البشر عموماً (المهتمين والمؤهلين للبحث عن الغاية العظمى)، وهي متاحة للاستخدام المشترك في الحياة الإنسانية، وفي وجودهم الخاص في هذا العالم"، شأنها شأن العديد من الفنون المطلعة على عدة أجزاء من الطبيعة، والتي تعتبر موهبة خاصة بأشخاص معينين . يود لوك حماية ورعاية "المواهب الخاصة لأشخاص معينين" يسعون نحو كفافهم الخاص في هذا العالم، ويؤمّنون في الوقت ذاته وسائل الراحة للحياة الإنسانية. ولا يُعد هذا وصفاً للصالح العام، بل إنه يُقدّم صالحاً خاصاً وصالحاً عاماً قد يتزامنان مع بعضهما. ونظراً لتنوع هذه المصالح، فما قد يكون خيراً عظيماً لأحد ما قد لا يكون كذلك لأحد آخر؛ والخير الأعظم للأغلبية قد لا يعود تماماً بنفس الخير على الأقلية . وربما نتصور أن لدى كل فرد، بالنسبة لوك، غاية عظمى، أو أنه يكتشفها، أو يبنيها. وفي حين يبدي لوك رأيه عن ذلك في سياق آخر، ربما لم يعد هناك سوى قولِه "الأفراد مختلفون عن بعضهم البعض" .

وعليه، تبدو الليبرالية ترتيباً سياسياً فعالاً يُتيح السعي الخاص لحياة طيبة متنوعة دون فرض غايات محددة على مواطنيه. وتعد حماية حقوق الملكية الخاصة من الأدوات الأساسية لهذه الحرية - وبالتالي لفرصة الازدهار الإنساني. وتستطيع حقوق الملكية الخاصة ضمان مستوى من الاكتفاء، وحتى الاستقلال الضروري لأي حياة رغيدة .

ورغم أن الحياة في النظام الليبرالي تَعدُ بالحياد بخصوص مفاهيم الخير، إلا أن النظام الليبرالي الجديد لا يسعه، عملياً، فرض مفهومه الخاص عن الخير أو التسامح على رعاياه. والليبرالية "ليست نزعة إجرائيةً بحتة، وليست محايدة فيما يتعلق بطرق الحياة أو الفضائل" . وفي حين يسمح هذا النظام بالسعي الخاص للمصالح المتنوعة، إلا أنه يضع تلك المساعي ضمن المجال الخاص. ولا يزال المجال العام يُصرّ على إجراءات مميزة محددة؛ فعلى الفرد الحر، القادر على السير في طريقه الخاص أو على رسم مساره الخاص في العالم، أن يمتلك قدرات معينة. ويجب على هذا الشخص أن يكون مستقلاً ومُجِدّاً؛ وبسبب الأساس الليبرالي في المساواة الطبيعية والحرية الطبيعية، على هذا الشخص احترام استقلال الآخرين وجدِّهم. لذا تُصر الليبرالية على بعض الفضائل الحديثة، بما في ذلك الاجتهاد والاعتماد على الذات والتسامح والكياسة. وهو يكافئ الابتكار والبراغماتية أكثر من العُرْف والتنظير الفلسفي. ويمكن للفرد السعي خلف مصلحته بحرية في مجاله الخاص. ويجب توظيف الأرواح المكرسة للإيمان أو للفلسفة، أو للفضيلة البطولية، أو للمتعة، في خدمة السلام والحماية والرفاه.

لا يوجد نظام محايد تماماً فيما يتعلق بالحياة الرغيدة. وتمسي أدوات الحياة الليبرالية غاياتٍ بحد ذاتها، وقد تفتقر هذه الحيوات الرغيدة الجديدة للجاذبية الرفيعة أو للنزوع إلى القديم. وتصون الليبرالية الحديثة مجالَ الخصوصية الذي يجعل بعضاً من الازدهار البشري ممكناً، ولكن ذلك قد لا يدفعنا نحو المفاهيم الغائية للخير. وفي ارتقائها بأدوات الحياة الرغيدة، قد تجذب الليبرالية عقولنا نحو مفاهيم المصالح القصوى. ودون وجود اعتبار غائي للازدهار الإنساني تصبح فكرة الخير الأعظم، بالنسبة لفلاسفة الحرية الحديثة، مجرد مسألة ذوق شخصي، ويعتمد الذوق بشكل كبير على الحكم الشخصي الذي يُصعب علينا النظر في مسألة المصالح القصوى - والصالح العام- بشكل جدّي. وعليه، فإن الليبرالية المتساوية تميل نحو المذهب النسبي. مع ذلك، فإن الليبرالية، إن فُهمت بشكل صحيح، غير محايدة؛ فهي تؤكد مطلبها بالخير. وأخذ مطلب الليبرالية على محمل الجد سيكون الخطوة الأولى نحو إعادة تقييمٍ جديةٍ للبدائل - وخاصة مطالب الإيمان والفلسفة والفضيلة البطولية.

ترجمة: علاء حامد العطار

الكاتب: بيتر جوفسون، أستاذ في العلوم السياسية، ورئيس قسم السياسة في كلية سانت أنسيلم

من كتاب " Economic Freedom and Human Flourishing: Perspectives from Political Philosophy"

AMERICAN ENTERPRISE INSTITUTE