متفرقات

كنا ننام كالطيور .. يالها من حياة جافة

أحمد هاتف

3 نيسان 2019 23:43

بمناسبة الذكرى 42 لوفاة عبد الحليم حافظ: لماذا لايموت الصوت  لتنطوي الحكاية .. وتأفل آخر استغاثات الضوء في ماوراء شبابيك النسيان ! ربما لأن بعض الأصوات أكثر سعة من الموت .. أكثر رحابة .. وأعمق من

بمناسبة الذكرى 42 لوفاة عبد الحليم حافظ:

لماذا لايموت الصوت  لتنطوي الحكاية .. وتأفل آخر استغاثات الضوء في ماوراء شبابيك النسيان !
ربما لأن بعض الأصوات أكثر سعة من الموت .. أكثر رحابة .. وأعمق من أن تجففها شمس النسيان . 
كلما تنامى غبار الدغل وأحتد صوت الأسود في روحي .. أفتح صوته .. وأعود صبيا أمام شاشة يتابع بقلق هذا الآتي من أعماق البعيد .. كانت الأنوار تطفأ ولايتجرأ احد على تحريك ساكن بعد العاشرة مساء .. لكن صوته يمزج في التوق والجرأة ف أتسلل الى هناك لأراقب ذاك الرجل النحيل الذي لايشبه أحد ... 
هو " عبد الحليم حافظ " الرجل ذو الأسى الطويل .. السقف الواهن التسمرت تحته انتظاراتنا .. فحين جاءت " قارئة الفنجان " كنا صبيانا نتناقل الخبر كالسر العظيم .. لم نك قد أدركنا المرأة بعد .. لكننا أدركنا " نزار قباني " وحفظنا ذاك المنشور السري للحلم ، والمكتوب بخط الشاعر .. كانت الأمهات يتدثرن حينئذ بصوت زهور حسين ، وهيام يونس ، ونجاة الصغيرة .. فيما ينام الآباء في بيت أم كلثوم مصحوبين بكأس العرق المر .. كنا نتساءل " كيف سيبلغ حليم تلك النبرة البرجوازية لنزار .. ؟
كيف يعري العاشق من سيجاره وربطة عنقه وعطره ليعيد تماثله مع صوت حليم .. وحين آنت اللحظة .. وأنطلق السخي من الحلم في صوته " تراعشت الفكرة .. وارتسم الضوء .. ورنت ضحكة في العتم البعيد .. وتدافعت أحلام .. وأبرقت عيون الصبية بالدمع والتمني "
- ستفتش عنها ياولدي في كل مكان ..
وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن .
كان السؤال مراً وغامقا وعجائبيا ، خلطناه بمخيلة البدو وأولاد الأنهار والسقوف العارية .. ليكبر ويصحو ، يتمدد ، يعلو ، يتناسل .. كانت القصائد تملأ جيوبنا .. كنا نعلق للحبيبات البعيدات في الركن الآخر من الحلم اراجيحا .. وشوارع مسيجة بالأشجار ، وغروب ذهبي .. وليلة مقمرة .. 
لم نكُ بعد قد عرفنا سوى قوة ان تحلم .. قوة أن تفتح روحك لتطلق فيها صوت عبد الحليم .. 
- نبتدي منين الحكاية ..
كنا تلك الليالي ننام خفافا كالطيور .. راسمين قلبا في الغيم ووهم امرأة دافئة في الأقاصي .. ولابأس ان نبكي فراقها الذي سيجئ . 
فقد ايقظ هذا الراعي خراف الأمل وليس لنا سوى أن نعيد رسم الطريق .
لم ندرك بعد الا تلك القصائد الملفوفة بضوء القمر .. لذا هرعنا الى مايجعل تفاحة الحلم أقرب .. جنون الماغوط .. سحر غادة السمان .. ملائكية أنسي الحاج .. جنون نزار .. والكثير من مطر عبد الحليم الذي أعدنا أكتشافة .. كتعويض عن أيام لم ندركها .. كان الآباء يصيرون أكثر رقة .. وهم يرون دموعنا التنضح حزنا على العاشق في " ابي فوق الشجرة " و " الخطايا " و
" الوسادة الخالية " تلك الأفلام التي تنازلت عنها السينما الى التلفزيون .. 
كبر عبد الحليم .. صار يبدو أكثر شحوبا في كل مرة ومازلنا صبية لم نبلغ الوهم الكامل للحزن .. الحزن الذي لايريد له عبد الحليم دموعا .. كان يقترب من الموت .. 
- حبيبتي من تكون 
هذا السؤال الذي يطلقه حليم ليحكي المرأة الآسرة .. كنا نجرده لندفعه الى الغد .. الى شكل المرأة المُنتَظَره .. لذا فقد وقعنا في خطيئة رسم السقوف العالية .. لنتعثر بالحزن .. 
وكأن عبد الحليم سارع ليدرك " صحراء القش والغبار " قبلنا .. ليتساءل 
- مين أنا عايز اعرف ..مين أنا 
ليه أنا عايز اعرف ليه انا . 
كان يسلمنا دون ان يدري الى صاموئيل بيكت العابث .. ويرمينا في تساؤلات يونسكو .. وعدمية سارتر وهنري باربوس و كامو ... 
كيف أدرك ذاك الجسد المثقل بالألم هذه المرارة ليطلق أكثر التساؤلات قتامة .. ألم يغني طويلا للحب والأحلام والشمس ؟
وأين مضت تلك الحكايا التي كانت تلقيها " الموعد والشبكة والصياد " .. هل كانت محض حكايا !
كان عبد الحليم يتسلل خارج مشهد الحياة .. كان يطلق النفير ليستيقظ اولاد الأحلام العالية قبل اكتشاف الخديعة ... 
حين أنطفأ حليم .. سكنت الشمس .. ولم يعد الليل بدويا يطلق حداءاته .. ولم تعد الشوارع مغسولة بالشجر .. صارت مرة كوجوه الحيطان الم تخربشها الطفولات .. 
حين مضى حليم .. صارت الأحلام تأخذ الباندول مبكرا لتنام ... لأن أحدا لم يعد يبعثها لتحلق بعيدا عن ممكنات الأرض ... وقتها أبتسم بيكت .. وقال 
- مرحبا بكم في العبث
مات عبد الحليم لأنه جف في أنتظار الأحلام 
.......
أحمد هاتف