لو كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجيد قراءة التاريخ، لاختار لنفسه سلوكاً "استعمارياً" مغايراً عن ما فعله جده نابليوني دي بونابرته، الشهير بـ "نابليون بونابرت"، الأخير، كان قد اختار العزف على الوتر الديني، وهو أكثر ما كان يثير مشاعر المجتمع المصري المتدين بالفطرة، كذلك فعل ماكرون يوم أمس، مع الإشارة إلى تمسكه بالفكرة، وتغييره للطقوس، فهو لم يلبس الجبة ويحتفل بشعائر رمضان ويقرأ القرآن، بل بحث عن "كعبة" اللبنانيين – فيروز- واختار فيها أن يطوف.
المستعمرون (الأذكياء)، لا يظهرون أطماعهم بفظاظة وتسلط، أما الأقوياء، فلا يأبهون بالطقوس، جوزيف سماحة، كان يرى أن السياسات الخارجية للدول الاستعمارية واحدة، والجشع البشري في السيطرة وتوسيع النفوذ هو نفسه، لكن هناك من يستخدم في تمريره "سلطة النص"، وهنا يلجأ هؤلاء، إلى تغليف الأطماع، بالمشاعر الأخوية والروح الأبوية، والصداقة التاريخية، تماماً كما فعله ماكرون، بيد أن الدول والكيانات التي لا تعوزها قوة ولا تشتكي من تراجع حضورها الدولي كقوة عظمي، تحتكم عندما تريد تمرير أطماعها لـ "نص السلطة"، أي الاقتدار والقوة والهيمنة، وهو منهج استعماري سلكه زعماء الولايات المتحدة السابقين مثل ريتشارد نيكسون، والمحدثين مثل "دونالد ترامب".
شاهد أيضاً: ماكرون في ضيافة فيروز على فنجان قهوة
بالعودة إلى الواقع اللبناني الذي شهد يوم أمس حدثاً تاريخياً، عندما اجتمعت كل الأطراف تقريباً على تأييد السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب رئيساً للحكومة، الأخير القادم من المدرسة السياسية الميقاتية، نزل إلى قصر بعبدا "بالبراشوت" الفرنسي، ولأن الموقف لا يحتمل الكثير من رفاهية الاختيار، اختارت الأطراف التي تمتلك ملاحظات هامشية أو فيصلية على شخصية أديب، أن تلتزم الصمت، حزب الله وأمل، لديهم أولوية وطنية تتلخص بالخروج من المأزق الاقتصادي الذي تعيشه البلاد التي تراوح على السقوط، أما تيار المستقبل، فيبدو أن هناك تسوية تمت بين زعيمه سعد الحريري والرئيس الفرنسي، إلى جانب ذلك، يعيش الحريري الابن أسوأ أوضاعه السياسية منذ سطع نجمه بعد مقتل والده، هو يجلس لأول مرة، بانتظار مباركة سعودية للتقدم خطوة واحدة على طريق استعادة الحكومة، أما حكام الرياض، فقد اختاروا الصمت، والصمت في عرف السعوديون يعني عكس الرضا تماماً، هم غير راضون عن الدور الذي تلعبه فرنسا اليوم، وهم غير راضون عن كل الفرص التي أضاعها الحريري الابن في مواجهة حزب الله وحشره في الزاوية.
في الرياض، لا يفهم الملوك الأولويات والمنطلقات التي تحرك سلوك زعيم تيار المستقبل، والحق، أن كاتب المقال لا يفهمها أيضاً، لأن للحريري الابن، تركيبة لا يفهمها أهل المنطق، المهم، أن السعوديين، وجدوا أن "محرر فندق الريتز كارلتون" قد أضاع فرصة انفجار بيروت، وكان عليه أن ينصب هو الآخر مشانقاً لـ نصر الله، وأضاع فرصة صدور حكم المحكمة الدولية، فلم يشتعل الشارع مطالباً حزب الله بنزع فتيل الفتنة، وقتل عناصره المتهمين زوراً !
من وجهة نظر سعودية، أضاع "الشيخ سعد" كل ما يمكن أن يستثمر، وصارت وعائلته لا تعدو كونها "استثمار خائب" لم ينجز شيئاً.
ماذا يريد ماكرون؟
بغض النظر عن الأطماع التقليدية التي قد تحتاج إليها أي قوة استعمارية عرفها التاريخ، يستغل الرئيس الفرنسي ظرفاً هو الأصعب الذي يمر على البلاد، ويسعى لاستعادة دوراً اقليمياً له في الشرق، بعد أن فقدت بلاده موقعها التاريخي كقوة عظمى، أمام صعود قوىً أخرى تهيمن على مساحة الحدث الدولي، مثل الصين وروسيا وإيران وحتى تركيا، والأخيرة التي تتمدد في شمال "بلاد الأرز" وجنوبه، تضيق مساحة المناورة على الحضور الفرنسي في لبنان.
بصيغة أخرى، يمكن أن نقول أن فرنسا اختارت أن تستغل حضورها التاريخي في لبنان، لقطع الطريق أمام صراع نفوذ جديد، كان يمكن أن يندلع في لبنان، إذا استمرت تركيا في اللعب لوحدها في البلاد.
لا تريد فرنسا مجابهة النفوذ التركي في لبنان، كما تجابهه اليوم في ليبيا، وهذا هو شطر من بيت القصيد، وفيما ستتكفل الشهور المقبلة، بكشف الشطر الآخر.
النهضة نيوز - بيروتملاحظة: الٓاراء السياسية الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن موقف "النهضة نيوز"