أناجيل ليندسفارن تحفة الراهب إيدفريث التي ترتبط بالحياة في إنكلترا العصور الوسطى ارتباطاً وثيقاً

منوعات

أناجيل ليندسفارن: قصة صناعة تحفة من العصور الوسطى

17 تشرين الأول 2022 15:32

في أحد الأيام من مطلع القرن الثامن، في جزيرة ليندسفارن قبالة الساحل الإنكليزي في نورثمبريا، جلس راهب اسمه إيدفريث واستل ريشته وغمسها في دواة الحبر الأسود، مسترشداً بنور الشمعة المرتعش، وأخذ يخطّ الكلمات الأولى من إنجيل يوحنا على مخطوطات رَقّية [جلد يكتب عليه].

"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ".

تمثلت مهمة إيدفريث في نسخ النص اللاتيني للأناجيل الأربعة - متى ومرقس ولوقا ويوحنا - وتوضيحها بنمط يسميه مؤرخو الفن بـ "الفن الانعزالي"، وهو أسلوب زخرفة هندسي كان منتشراً قس بريطانيا وأيرلندا في أوائل العصور الوسطى.

واستغرق إنهاء أناجيل ليندسفارن عشر سنوات، وأمست تحفة إيدفريث الفنية التي ستُقدر لأجيال. وأضاف المالكون لاحقاً إلى صفحاتها وصانوها من غزوات الفايكنغ، ثم حفظت الأناجيل في مدينة دورهام لمدة 800 عام قبل أن تصبح جزءاً من مجموعة المكتبة البريطانية بعد أن تبرع بها جامع التحف روبرت كوتون (1571-1631).

ترتبط قصة أناجيل ليندسفارن ارتباطاً وثيقاً بالحياة في شمال شرق إنكلترا. وتروي لنا عن هجرة الجماعات البشرية، وتوارث التقاليد الفنية والحفاظ على تاريخ مجتمعي يتوافق مع اهتمامات العصر الحديث حول الهوية والانتماء.

مرصع بالذهب والجواهر

تتألف أناجيل ليندسفارن من أكثر من 250 صفحة من الرَقّ، ارتفاعها أكثر من 36 سم بقليل، أي بحجم ورقة A3. وتضرر غلاف الكتاب الأصلي المرصع بالذهب والمجوهرات في مرحلة ما من تاريخ المخطوطة المضطرب، لكن النسخة الحديثة، التي بدأ العمل عليها في عام 1852، وغيرها من أغلفة الكنوز التي تعود إلى العصور الوسطى، تشير إلى الترف في ذلك العصر الذي خُط فيه هذا الكتاب المقدس.

ويُفتتح الكتاب برسائل كتبها اللاهوتيان المسيحيان المتنفّذان جيروم ويوسابيوس وبسلسلة من الجداول الكنسية والنظم التنظيمية لمقارنة القصص المحكية في الأناجيل. ويَسبق كلَّ نص صورةٌ لمؤلفها واستهلال مكتوب بشكل هندسي ملتو تشكله الكلمات الأولى من النص.

وتشتمل المخطوطة أيضاً على صفحة مرسوم عليها الحرفان الأبجديان الإغريقيان "خي" و"رو"، حيث ترسم أحرف الاسم المختصر بالإغريقية لاسم المسيح "XPI" على شكل أغصان كرمة متشابكة. وأكثر الصفحات الملفتة صفحاتٌ خمس مزخرفة، حيث تُملأ كل صفحة بنمط مذهل من العقد والأشكال الحلزونية المتكررة حول شكل الصليب.

وعند إمعان النظر، تكشف الكتلة الكثيفة للخطوط المرسومة عن عالم يعج بالحياة، من طيور ذات أقدام كبيرة تسير في موكب حول الهوامش، إلى مخلوقات شبيهة بالأفعى طويلة العنق تدخل وتخرج من الأشكال المتشابكة. ولا يزال الباحثون منقسمين حول معاني هذه الرسوم، ولكن لا بد أن أحد أهدافها يكمن في قدرتها على إغواء القارئ، وجذبه لقراءة النص المقدس.

وفي حين تذكرنا هذه الأشكال بالعوالم القديمة التي كانت على أعتاب المسيحية - لا سيما أدوات الدفن المستوحاة من العادات الاسكندنافية التي عثر عليها في موقع أثري في سوفولك اسمه "ساتون هوو" - فإنها تظل متجذرة في العالم المسيحي الذي صنعت فيه.

انتشار المسيحية

أدى انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس إلى تقسيم بريطانيا الرومانية إلى ممالك متحاربة. وبحلول القرن السابع، وحد الملك أوزوالد – أحد أبناء الملك إثلفريث البرنيسي - مملكتي برنيسيا وديرا تحت راية نورثمبريا الموحدة. ورعى انتشار المسيحية في هذه البلاد القوية.

وفي عام 635، دعا أوزوالد راهباً أيرلندياً يدعى آيدان، من جزيرة إيونا الهبرية، ليتولى منصب الأسقف لديه، وأهداه جزيرة ليندسفارن الصغيرة ليقيم عليها ديراً. ووصل مع آيدان رهبان تدربوا على إنتاج الكتب التي اشتهرت بها جزيرة إيونا، فصدر عنهم في جزيرة ليندسفارن "كتاب كيلز" و"كتاب دورو" وأناجيل أوثو كوربوس.

ومهدت حجرة الكتابة التي أنشأها رهبان أيدان الطريق لكتابة أناجيل ليندسفارن بعد ذلك بجيل، ولكن إنتاجها ارتبط بحدث مشهور آخر في تاريخ الجزيرة. إذ اكتسب كوثبرت، أسقف ليندسفارن السابق واللاحق، لقب صانع المعجزات بحلول وقت وفاته في عام 687. لكن عندما فتح قبره بعد 11 عاماً وعثر على جسده "غير متحلل"، بدأ الحجاج يتوافدون إلى ليندسفارن بحثاً عن الشفاء. وأمست الجزيرة جزيرة مقدسة. (أشارت الأبحاث إلى أن تقنيات التحنيط أو ملوحة التربة قد تفسر سبب بقاء الجثمان مصاناً من التحلل).

وبدأ إيدفريث عمله على الأناجيل في أعقاب هذه الأحداث، وربما صمم الكتاب ليحتل مركز الصدارة في الاحتفالات الطويلة التي تجري حول ضريح القديس كوثبرت الجديد. ويسجل نقش لاحق في المخطوطة أنها صنعت "من أجل الله ومن أجل القديس كوثبرت، ومن أجل جميع القديسين الموجودين في الجزيرة عموماً".

نجاة الأناجيل من غارات الفايكنغ

لمن الملفت أن ينجو الكتاب لمدة 1300 عام، ففي عام 793، غزت جيوش الفايكنغ ليندسفارن ودمرت ضريح كوثبرت ومعظم الدير. وفر الرهبان، آخذين معهم جثمان كوثبرت وما استطاعوا حمله من كتب، بينها أناجيل ليندسفارن.

واستقروا بعد سبع سنوات في دير تشيستر لو ستريت، بالقرب من مدينة دورهام. وهنا أدخلت الإضافة الأخيرة من القرون الوسطى على أناجيل ليندسفارن. وفي القرن العاشر، عندما ظلت المخطوطة في مكتبة تشيستر لو ستريت لنحو 200 عام، أضاف راهب يُدعى ألدريد ترجمة نص الإنجيل باللغة الإنكليزية القديمة فوق اللاتينية.

وكتب تفسير ألدريد بلهجة نورثمبريا وبخط يد أصغر من الأشكال اللاتينية المستديرة. وليس واضحاً لم قرر ألدريد الشروع في هذه المهمة الطموحة. لكن هذا التوقيت يتوافق مع الجهود المتنامية لتدعيم طائفة كوثبرت في دورهام وترجمة الكتب التي كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بضريحه في ليندسفارن من أجل من لا يعرف اللغة اللاتينية أو القليل عنها.

وربما كان لدى ألدريد أيضاً أسباب شخصية للعمل على هذا المشروع، إذ كتب في أحد نقوشه أنه يترجم النص "لله وللقديس كوثبرت، حتى يتسنى له [أي ألدريد] دخول الجنة، وليحظى بالسعادة والطمأنينة والنجاح".

وأيّاً كانت دوافعه، تزودنا إضافات ألدريد بأقدم نسخة باقية من الأناجيل المكتوبة باللغة الإنكليزية. وعلاوة على تحفة الفن النورثمبري، تمثل أناجيل ليندسفارن سجلاً لا يقدر بثمن من تاريخ العصور الوسطى المبكر، مع الحفاظ على الكلمات التي كان يتحدث بها الناس العاديون في شمال إنكلترا منذ أكثر من تسعة قرون. وتربطنا صوره ونصوصه بعالم القديسين والمعجزات وغزوات الفايكنغ، ولكن أيضاً بمجتمع يهتم بشدة بماضيه وشعبه وكتبه.

ترجمة: علاء حامد العطار (بتصرف)

صحيفة ذا كونفرزيشن