جف البحر الأبيض المتوسط قبل 5.5 مليون عام، وهو حدث يحمل دروسا مهمة للبشرية في العصر الحديث، فماذا سيحدث لو قام البشر بتجفيف البحر الأبيض المتوسط اليوم، محولينه إلى بحيرة ملحية ضخمة؟ هل ستتمكن الحياة البرية من النجاة؟ وإذا نجت، كم من الوقت سيستغرق تعافيها؟
قد تبدو هذه الأسئلة نظرية بحتة، لكنها كانت محور اهتمام هيرمان سورجل، المهندس المعماري البافاري الذي كرّس جزءا كبيرا من حياته لتحقيق مشروع مشابه: بناء سد ضخم عبر مضيق جبل طارق لتجفيف البحر الأبيض المتوسط واستصلاح الأراضي فيه.
جفاف البحر الأبيض المتوسط
نظم سورجل محاضرات وأفلاما وثائقية وجمع التبرعات لهذا المشروع، معتقدًدا أنه سيعزز التعاون بين إفريقيا وأوروبا ويوفر الطاقة لكلا القارتين من خلال مشاريع ضخمة للطاقة الكهرومائية، ولكن ما لم يكن يعرفه هو أن حلمه تحقق بالفعل في نهاية عصر الميوسين، قبل 5.5 مليون عام، كنتيجة لقوى طبيعية.
منذ السبعينيات، أكدت عدة أجيال من علماء الجيولوجيا البحرية والجيولوجيا الجيوفيزيائية وجود طبقة ملحية بسماكة تتراوح بين كيلومتر إلى ثلاثة كيلومترات مدفونة في معظم أجزاء البحر الأبيض المتوسط، وهذه الطبقة تمثل ما يقرب من مليون كيلومتر مكعب من الملح، وتشير إلى فترة وجيزة في الزمن الجيولوجي عندما كان البحر الأبيض المتوسط معزولا عن بقية محيطات العالم، حيث استمرت هذه الفترة حوالي 190,000 عام.
سبب جفاف البحر الأبيض المتوسط قديما
لم يكن السبب وراء ذلك مهندسا ألمانيا غريب الأطوار، بل كانت نتيجة لحركة الصفائح التكتونية، فقد تم فصل حوض البحر الأبيض المتوسط عن المحيط الأطلسي بسبب تحركات القارات، وجفت مياهه بسرعة تحت تأثير المناخ الجاف في المنطقة، مما أدى إلى تراكم كميات هائلة من الملح.
الأزمة الملحية الميسينية
يعرف هذا الحدث باسم "الأزمة الملحية الميسينية"، وهو أكبر حدث انقراض تعرضت له الأرض منذ انقراض الديناصورات غير الطائرة قبل 65 مليون عام، ولا حاجة لإجراء تجارب هندسية لمعرفة مدى قدرة الحياة البحرية على التكيف مع أزمة بيئية بهذا الحجم.
نشرت الإجابة على هذا التساؤل مؤخرا في مجلة Science، في دراسة قادتها كونستانتينا أجادي من جامعة فيينا، بالتعاون مع المجلس الوطني الإسباني للبحث العلمي و28 عالما آخرين من 25 مؤسسة أوروبية.
الأنواع المحلية والمنقرضة والمهاجرة
من خلال تحليل البيانات الإحصائية المستخلصة من أكثر من 750 ورقة علمية، تمكن الباحثون من توثيق 22,932 حالة لوجود 4,897 نوعا بحريا كان يعيش في البحر الأبيض المتوسط، وقبل الأزمة، كان يمكن اعتبار 779 نوعا منها أنواعا مستوطنة (أي موثقة فقط في البحر الأبيض المتوسط)، ومن بين تلك الأنواع، بقي فقط 86 نوعا بعد الأزمة الملحية.
استطاعت بعض أنواع السردين المستوطنة ظاهريا النجاة، وكذلك بعض الثدييات البحرية مثل السيرينيات، وهي نوع من الثدييات البحرية المرتبطة بخراف البحر والديوجونيات.
ومع ذلك، نظرا لأن سجلات الحفريات محدودة ومجزأة، لا يمكننا التأكد من أن جميع هذه الأنواع كانت مستوطنة أو أنها لم تكن لتنجو خارج البحر الأبيض المتوسط، لكن بالنسبة للأنواع التي كانت مستوطنة، يبقى السؤال: أين تمكنت من النجاة؟ وما هي الملاذات التي وجدتها لتجنب الزيادة الكبيرة في مستويات الملح وارتفاع درجة الحرارة؟
تظل هذه الأسئلة دون إجابة، لكن الدراسة أثبتت أن التغيرات في عدد الأنواع كانت نتيجة لاستبدال الأنواع بتلك التي أتت من المحيط الأطلسي بعد إعادة ملء البحر الأبيض المتوسط بالمياه، وليس بسبب التكيف السريع مع البيئة الجديدة عالية الملوحة، بعبارة أخرى، لم يكن هناك وقت كافٍ للتكيف، وتم استبدال الأنواع المنقرضة بأنواع أطلسية هاجرت إلى البحر الأبيض المتوسط.
دروس من الانقراض الجماعي
كان تأثير عزل البحر الأبيض المتوسط على الحياة البرية والنباتية كارثيا، حيث دمر معظم النظم البيئية، ومن النتائج المهمة الأخرى التي توصلت إليها الدراسة هي أن تعافي عدد الأنواع استغرق أكثر من 1.7 مليون سنة، ويعكس هذا التعافي البطيء للأنظمة البيئية في البحر الأبيض المتوسط أول توثيق دقيق لكيفية استجابة الحياة البرية لحدث انقراض بهذا الحجم.
اليوم، يتمتع البحر الأبيض المتوسط بتنوع بيولوجي عالٍ بفضل وجود العديد من الأنواع المستوطنة، وتشير النتائج إلى أن هذا كان الحال أيضا قبل 6 ملايين سنة، لكن الغالبية العظمى من هذه الأنواع المستوطنة اختفت عندما تم فصل البحر الأبيض المتوسط عن المحيط الأطلسي.
ربما يكون الدرس الآخر المستفاد من هذه الدراسة هو أنه على الرغم من إغراء الاعتقاد بأن المشاريع الهندسية الجيولوجية يمكن أن تسمح لنا بالحفاظ على معدلات الانبعاثات والتدمير البيئي الحالية، إلا أن التاريخ الجيولوجي للأرض يكشف حقائق أعمق من أي تجربة.
عندما أعيد ربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، تمت إعادة توطينه من خلال المخزون الهائل من الأنواع في محيطات العالم، ومع ذلك، استغرق الأمر ملايين السنين حتى تتعافى الأنظمة البيئية في البحر الأبيض المتوسط من حيث التنوع البيولوجي، ولا أحد يعرف حتى الآن كم من الوقت سيستغرق تعافي الحياة البحرية من التغيرات العالمية الجارية حاليا.