بعد مرور أكثر من أربعة أشهر من وقوع أكبر انفجار في تاريخ لبنان، والذي أدى إلى موجة صادمة من الموت والدمار في العاصمة بيروت، لم يقبل أي مسؤول تحمل المسؤولية عن الانفجار أو أن يقوم بالتحدث علنا حول كيفية ترك مخزون من المواد المتفجرة دون تأمين في ميناء بيروت لمدة ستة سنوات.
في الواقع يعمل السياسيون ذوو النفوذ على منع القاضي المسؤول عن التحقيق من استجواب كبار المسؤولين، ناهيك عن محاسبتهم، حيث أوقف قاضي التحقيق أول أمس الخميس للرد على محاولة اثنين من المسؤولين إبعاده عن القضية.
يشار إلى أن انفجار بيروت، الذي أودى بحياة 200 شخص وجرح الآلاف وألحق أضرارا بالغة بمليارات الدولارات، كان أوضح مثال حتى الآن على الأخطار الجسيمة التي يمثلها الفساد المزمن وسوء الإدارة، الأمر الذي ترك اللبنانيين في حالة خلل وظيفي وخدمات سيئة واقتصاد منهار بالكامل.
انفجار مرفأ بيروت
ووصف تحالف عريض من المواطنين الغاضبين الانفجار باعتباره لحظة فاصلة يمكن أن تؤدي إلى تغيير حقيقي في الطريقة التي يحكم بها لبنان ولكسر ثقافة الإفلات من العقاب التي تحمي السياسيين منذ فترة طويلة من المساءلة لكنهم واجهوا مقاومة شرسة من النخبة السياسية المصممة على الحفاظ على صلاحياتها.
وقال نزار صاغية، المحامي الذي يرأس مؤسسة المفكرة القانونية وهي منظمة حقوقية رقابية: "كان هذا الانفجار علامة فارقة في تاريخ لبنان فالأمر لا يتعلق بالانفجار فحسب، بالنظام بأكمله وإذا فشلنا في هذه المعركة، فلن نكون قادرين على محاسبة أي شخص على انهيار البلاد".
داخل الميناء، تلوح صوامع الحبوب المدمرة فوق الفوهة التي خلفها الانفجار و حظائر التخزين المهدمة ووسط البلد، ما زالت الألواح المعدنية تغطي مداخل المتاجر والفنادق المدمرة، وفي الأحياء السكنية تتسلق السقالات المباني السكنية حيث لا تزال العائلات تحاول استبدال النوافذ المحطمة و استبدال الأثاث الذي دمر على إثر الانفجار خاصة وأن الحكومة لم تفعل شيئا يذكر لمساعدة الأحياء الأكثر تضررا، لذا تولت الجمعيات الخيرية زمام المبادرة في جهود إعادة الإعمار الجزئية.
بالإضافة إلى ذلك ضاعف الانفجار من صدمة الأزمات السياسية والاقتصادية القائمة التي يعاني منها لبنان حيث أن الليرة اللبنانية ما زالت تنهار، والمصارف اللبنانية ترفض منح الناس أموالهم، واستمرار المسؤولين في الفشل في إجراء الإصلاحات المطلوبة للحصول على المساعدات الدولية .
خسائر انفجار مرفأ بيروت
كما ووعد رئيس الوزراء حسان دياب بإجراء تحقيق شامل، وأوكل المهمة إلى قاضي يبلغ من العمر 60 عام و لا يتمتع بشهرة كبيرة ، وهو فادي صوان . حيث قال أحد المساعدين أن القاضي صوان بدأ في استجواب الناس في مكتب صغير للغاية وبلا نوافذ في قاعة محكمة العدل ، و أنه يكن هناك مكان لملفات القضية حتى حصل منذ ذلك الحين على مساحة أكبر، لكن فريقه يتكون من موظفين اثنين فقط، والذين يدونون الملاحظات يدويا .
والجدير بالذكر أن مهمة القاضي صوان تعتبر مهمة كبيرة للغاية، فهي لا تركز على تحديد سبب الانفجار فحسب، بل وعلى البحث عن أدلة على الجرائم المرتبطة بوصول السفينة التي جلبت المواد الكيميائية إلى بيروت في عام 2013، ومن اتخذ قرار تخزينها في الميناء بعد عام من وصولها وكيفية تعاملهم مع هذا المخزون الخطير منذ ذلك الحين .
فقد وضعت تلك المهمة القاضي في مسار تصادمي مع شخصيات قوية، حيث أظهرت الوثائق التي حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز و غيرها من وسائل الإعلام بعد الانفجار أنه قد تم تحذير مجموعة من كبار المسؤولين بشأن نترات الأمونيوم، بما في ذلك الرئيس ورئيس الوزراء وقائد الجيش وعدد من القضاة والوزراء، والذين فشلوا في إزالتها أو تأمينها كما يجب .
ضحايا وخسائر تفجير مرفأ بيروت
وخلال هذا الشهر، فاجأ القاضي صوان المؤسسة السياسية بتوجيه أصابع الاتهام إلى أربعة سياسيين أقوياء بتهمة الإهمال الجنائي الذي أدى في الموت، وهم السيد دياب، الذي استقال مع حكومته بعد الانفجار لكنه استمر في تصريف الأعمال ووزيرين سابقين للأشغال العامة كانا يشرفان على الميناء، ووزير مالية سابق كان يدير مصلحة الجمارك لكن مجموعة من القوى السياسية تجمعت معا على الفور لاتهام القاضي بتجاوز حدوده .
حيث قال الحزب السياسي الذي يقوده الرئيس ميشال عون أن القاضي ربما يكون قد خالف القانون، في حين اتهمه حزب الله، بـ"الاستهداف السياسي" . كما والتقى رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، بالسيد دياب لإظهار التضامن ضد ما أسماه "الانتهاك الواضح و الصارخ للدستور" من قبل القاضي صوان .
كما لم يخضع أي من الرجال المتهمين مؤخرا للاستجواب، وقال اثنان منهم أنهم يمتلكون الحصانة كأعضاء حاليين في البرلمان، مقدمين طلبا إلى المحكمة لاستبدال القاضي صوان ويوم الخميس علق القاضي التحقيق لمدة 10 أيام كرد على ذلك .
ففي تصعيد إضافي للطعن في سلطته، قال وزير الداخلية المؤقت محمد فهمي الأسبوع الماضي إنه لن يطلب من قوات الأمن القبض على الوزراء المتهمين، حتى لو صدرت أوامر بالقبض عليهم . وجادل منتقدو القاضي بأنه لا يمكن محاكمة وزراء الحكومة الحاليين و السابقين إلا من قبل محكمة خاصة، و ذلك بعد توجيه الاتهام إليهم بأغلبية ثلثي الأصوات في البرلمان، على الرغم من أنه لم يتم تفعيل مثل هذه المحكمة في تاريخ لبنان، ولم يبذل مجلس النواب أي جهد للقيام بذلك منذ انفجار بيروت القاتل .
وقال تشارلز رزق، وزير العدل السابق، في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز : " أي حدث أكبر من تدمير الميناء و نصف بيروت يحتاجون إليه لتشكيل هذا المجلس ؟ كل هذا مجرد خدعة و احتيال لجعل الجميع ينسون من المسؤول الحقيقي عن ذلك ".
لكن الدستور اللبناني ينص على أن هذه العملية النيابية يتم إجراءها فقط للبت في تهمة الخيانة العظمى و الإخلال بالواجبات الرسمية ويقول خبراء قانونيون أن هذا يعني أنه بإمكان القضاة توجيه اتهامات للمسؤولين بجرائم تقع خارج تلك الفئات، وهو ما يفعله القاضي صوان على ما يبدو، رغم أنه لم يشرح أسبابه للقيام بذلك بشكل علني في حين ادعى بعض المسؤولين المتهمين أنهم يمتلكون الحصانة البرلمانية من الملاحقة القضائية، وهو أمر رفضه المدافعون عن ضحايا الانفجار بشدة .
حيث قال ملحم خلف رئيس نقابة المحامين في بيروت، و التي يمثل محاموها أكثر من 800 من ضحايا الحادث الذين يطالبون بتعويضات : "بعد حدوث مثل هذه الجريمة ، أنحن بحاجة لأن ننظر و نرى ما إذا كانت هناك حصانة ؟ لا يمكننا قبول السلوكيات التقليدية لجريمة غير تقليدية ، و علينا أن نضغط من أجل العدالة، فهذا لم يكن هذا حادث سيارة ".
مهما تلاشت هذه الادعاءات، فقد تم إقامة مواجهة بين القضاء و البرلمان بالفعل، والتي يبدو أنها تعكس تحرك كبار السياسيين لسحب القضية إلى المجال السياسي الذي يسيطرون عليه، والذي نادرا ما يعاقب أحدهم .
وقال رزق : "إن الشرعية مهمة ، لكننا عالقون في السياسة ، والسياسة أقوى هنا "، حيث يبدو أن المعركة السياسية تنطبق فقط على قادة لبنان ".
ضحايا انفجار مرفأ بيروت
و الجدير بالذكر أن القاضي صوان كان قد استجوب قبل الأسبوع الماضي حوالي 80 شخصا و اتهم نصفهم بجرائم متعلقة بالحادث، و قد تم اعتقال 25 مشتبها بهم، كان معظمهم من المستوى المنخفض إلى المتوسط من موظفي الجمارك و الأمن في الموانئ .
بالإضافة إلى ذلك قدم القاضي صوان طلبات توقيف إلى منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول) لمالك السفينة القبرصي و قبطانها الروسي و طلب معلومات من موزمبيق و بلجيكا و بريطانيا و دول أخرى حولها.
وتلقى تقريرا فنيا من مكتب التحقيقات الفيدرالي أيضا، وهو ينتظر تقارير من سكوتلاند يارد و فريق الطب الشرعي الفرنسي الذي فحص موقع الانفجار .
وعلى الرغم من أن هذا التحقيق الذي ليس له حد زمني، سينتهي عندما يتم إعلان نتائجه على الملأ و يعلن عن لوائح الاتهام الرسمية، و يبدأ عملية المحاكمة إلا أن نقابة المحامين والمدافعين عن الضحايا الآخرين يصرون على أنه لا يمكن تحقيق العدالة إذا لم يتم التحقيق في الجرائم المحتملة التي يرتكبها كبار الشخصيات السياسية و العسكرية. واستمرت مجموعات الضحايا و عائلاتهم في الضغط على الحكومة للحصول على إجابات ، واحتجوا أمام منازل كبار المسؤولين، بمن فيهم القاضي صوان .
وقال مهدي زهر الدين البالغ من العمر 21 عاما و أحد منظمي الاحتجاج الذي قُتل شقيقه في الانفجار، والذي امتلأت شقته المتواضعة بصور شقيقة عماد الذي كان مسؤولا في الميناء : " بالتأكيد ، عليهم تعليق المشانق .. إننا نريد الدم مقابل دماء أخي ".
في حين قالت والدته علياء حطون: "لقد ربيته و هم أحضروه إلي قطعا يجب معاقبة كل من كان يعلم أن هذه المواد موجودة في الميناء" .
النهضة نيوز_ترجمة خاصة