وبدأ المقال الحديث عن تصاعد انتقادات الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، إذ أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أنه لم يكن أمامه فعلياً سوى خيارين في هذا الصدد، وقال إن اتفاق إحلال السلام الذي أبرمه دونالد ترامب مع طالبان العام الماضي أجبره على الاختيار بين الانسحاب الفوري أو تصعيد الحرب. ومع استيلاء طالبان الوحشي على السلطة مرة أخرى، سارع مسؤولو ترامب السابقون فجأة للنأي بأنفسهم عن ذلك الاتفاق.
لكن عندما أبرم الاتفاق في الدوحة في شباط/فبراير 2020، لم يتصدر عناوين الأخبار، لأن الحرب نفسها لم تكن شيئاً جديداً. لذلك لا يعرف كثير من الناس ما يجري في البلاد في الحقيقة.
لماذا أبرم ترامب الاتفاق
وقالت الصحيفة إن ترامب عندما تولى منصبه، كان شفافاً للغاية، إذ أراد الخروج من أفغانستان. وأشار الأستاذ في جامعة "جورج تاون"، بول ميلر إلى أن ترامب "لم يكن لديه أي إحساس حقيقي بما كان على المحك في الحرب أو بسبب البقاء".
لذلك، حاول ترامب القيام بشيء لم يفعله أسلافه، وهو بذل كامل جهده لعقد صفقة مع طالبان. استغرق الأمر تسع جولات مختلفة من المحادثات على مدار 18 شهراً، حتى إنه دعا ذات مرة طالبان سراً إلى المنتجع الرئاسي، كامب ديفيد، عشية ذكرى 11 أيلول/سبتمبر. لكنه هدد بوقف جميع المحادثات بعد مقتل أحد الجنود الأمريكيين، وكان رد الحزبين على الدعوة عنيفاً.
واستمرت المحادثات في الدوحة، إلى أن أعلن ترامب في شباط/فبراير 2020 أنه توصل إلى صفقة، ونقاطها الأساسية هي: أن تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان في غضون 14 شهراً، مقابل موافقة طالبان على عدم السماح لأفغانستان بإيواء الإرهابيين. ووافقت طالبان أيضاً على بدء محادثات سلام مع الحكومة الأفغانية والنظر في وقف إطلاق النار مع الحكومة. (يعتقد مسؤولو المخابرات الأمريكية أن طالبان كانت تقتل القوات الأفغانية طوال ذلك الوقت، في محاولة لاستخدام العنف كوسيلة ضغط في المفاوضات).
حدد الاتفاق جدولاً زمنياً واضحاً لمغادرة القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، في أول 100 يوم أو نحو ذلك، فخفضوا عدد القوات من 14000 إلى 8600، وتركت خمس قواعد عسكرية، على أن يخلو ما تبقى على مدى الأشهر التسعة التالية. وينص الاتفاق على أن "الولايات المتحدة وحلفاءها والتحالف سيستكملون انسحاب جميع القوات المتبقية من أفغانستان خلال الأشهر التسعة والنصف المتبقية".
وستطلق الولايات المتحدة سراح 5000 سجين من طالبان، مقابل أن تفرج طالبان عن 1000 سجين.
وقال النقاد إن نصيب طالبان من الاتفاق طالبها بأمور كثيرة – أمور غير واقعية، فبالإضافة إلى التأكد من عدم وجود أي خلية إرهابية في البلاد، وافقت طالبان على تحمل المسؤولية عن أي أفغاني قد يرغب في مهاجمة الولايات المتحدة، وشمل ذلك المهاجرين الجدد إلى البلاد.
وجاء في الاتفاق أن طالبان "سترسل رسالة واضحة مفادها أن من يشكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها لا مكان له في أفغانستان". ووافقت طالبان على "منع أي جماعة أو فرد في أفغانستان من تهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها، ومنعهم من تجنيد العناصر وتدريبهم وجمع الأموال، وإلا فلن تستضيفهم وفق الالتزامات الواردة في الاتفاق".
ونوهت الصحيفة إلى أن هذه الصفقة تطلبت النظر إلى طالبان بحسن نية، إذ قال ترامب عندما أعلن ذلك: "أظن بصدق أن طالبان تريد أن تفعل شيئاً لتبين أننا لا نضيع الوقت جميعاً". وأضاف على الهامش: "إذا ارتكبت الحركة أموراً سيئة، سنعود بقوة لم يشهدها أحد قبلاً".
اتفاق أثلج صدر طالبان
ونقلت الصحيفة عن باحثين (بينهم مسؤولون من إدارة ترامب) قولهم: إن إحدى المشكلات الهائلة هي أن اتفاق إحلال السلام أبرم مع عدم وجود آلية إنفاذ لطالبان لتفي بوعودها، فقد وجب على طالبان في الأساس التوقيع على تعهد يقول إنهم لن يؤووا إرهابيين، أشار ميلر إلى أن الاتفاق لم يلزم طالبان في أي بند من بنوده على إدانة تنظيم القاعدة.
وبدا أكبر التزام ملموس من طالبان في الاتفاق على النحو التالي: قلل قادتها بشكل كبير هجماتهم على القوات الأفغانية لمدة سبعة أيام سبقت توقيع الاتفاق، لتظهر أنها قادرة على السيطرة على عناصرها في جميع أنحاء البلاد. لكن الاتفاق لم يطلب من طالبان وقف هجماتها على قوات الأمن الأفغانية".
وكان هذا الاتفاق في نظر ميلر يصب لصالح طالبان بشكل عام، إذ قال "أكد ترامب أن المسار المستقبلي للأحداث سيعكس مصالح طالبان أكثر من مصالح الولايات المتحدة بكثير". وفي وقت سابق، وصف مستشار الأمن القومي السابق هربرت ماكماستر الاتفاق بأنه "اتفاقية استسلام مع طالبان". وقال عضو آخر في مجلس الأمن القومي إنه "اتفاق واهن للغاية".
صدوع في الاتفاق
ولفتت المراسلة آمبر فيلبس في مقالها أن أدلة كثيرة ظهرت بعد بضعة أشهر من توقيع الاتفاق، أدلة بينت أن طالبان لم تكن صادقة فيما خصّ السلام كما تظاهرت سابقاً. وقالت الأمم المتحدة إن لديها أدلة على أن طالبان والقاعدة لا تزال تربطهما علاقات. وحذرت المخابرات الأمريكية من أن القاعدة "مندمجة" في طالبان. كما شنت طالبان عشرات الهجمات في أفغانستان، ما أدى إلى تصعيد عنفها.
وأفاد تقرير المفتش العام الأمريكي أن الحركة "تعتبر المفاوضات خطوة ضرورية لضمان إجلاء القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى بموجب اتفاق الولايات المتحدة وحركة طالبان، لكن من المحتمل ألا تدرك طالبان أن عليها أي التزام بتقديم تنازلات أو تسويات جوهرية".
وكان كافياً أن يتساءل المسؤولون الأمريكيون عندما تولى بايدن منصبه إن كانت طالبان تخرق جانبها من الاتفاق.
ترامب استمر في إخراج القوات من أفغانستان
تابعت المراسلة بالقول إن ترامب اختار المضي في إعادة القوات إلى الوطن، ودعمه الحزبان.
وأشارت إلى أنه من المهم أن نتذكر أن ترامب عندما تولى منصبه، كان معظم الجدل العام حول البقاء في أفغانستان قد انتهى، فقد طوى معظم الأمريكيين صفحة الحرب، وحتى الجيش أدرك أنه لن يكون بإمكانه إحداث مزيد من التغيير في المسار الحالي، إذ قال مارك إسبر، وزير الدفاع السابق مؤخراً: "السبيل الوحيد للمضي قدماً هو التوصل إلى اتفاق سياسي، وليس الحل العسكري".
لكن الاتفاق من منظور بعض الفطنين بدا برمته وكأنه محاولة بائسة للخروج من أفغانستان، إذ كان ترامب قد وعد في حملته الانتخابية بأن يكون الرئيس الذي أنهى أخيراً أطول حرب خاضتها أمريكا، ما سيكون بمنزلة أمر لم يتمكن أي رئيس آخر من تحقيقه.
وقبيل بدء محادثات السلام، بدأ ترامب مسبقاً في سحب آلاف القوات، وأقال وزير دفاعه إسبر، بعد أن كتب إسبر مذكرة يعارض الانسحاب. (قال إسبر لاحقاً إن سحب ترامب لعدد كبير جداً من القوات في وقت قصير جداً ساهم في ما نراه الآن في أفغانستان).
بايدن انتقد الاتفاق لكنه التزم به
وأوضحت الصحيفة أنه لم يكن في أفغانستان سوى 3500 جندي أمريكي عندما تولى بايدن زمام الأمور، وأرجأ بايدن موعد الانسحاب المخطط له من 1 أيار/مايو إلى أربعة أشهر تليه، لكنه أبقى الاتفاق على حاله، إذ ستنسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر.
وقال: "حان الوقت لإنهاء أطول حرب أمريكية".
لم تنتظر طالبان مغادرة الأمريكيين قبل أن تسيطر على البلاد في غضون أيام. وبينما كان العالم يراقب سقوط كابل، دافع بايدن عن قراره بعدم البقاء والقتال بالقول إن اتفاق ترامب أوجب عليه إما الاستمرار بالانسحاب أو تصعيد القتال.
وأعلن في بيان "عندما أصبحت رئيساً، واجهت خياراً - إتمام الاتفاق، مع تمديد قصير لإخراج قواتنا وقوات حلفائنا بأمان، أو تكثيف وجودنا وإرسال مزيد من القوات الأمريكية للقتال مرة أخرى في حرب أهلية في بلد آخر".
وجادل النقاد بأن هذا خيار خاطئ، مشيرين إلى عدد الاتفاقيات الدولية الأخرى التي أبرمها ترامب وتجنبها بايدن أو عدلها. لكن بالنظر إلى أن بايدن كان يشاركه هدف الانسحاب، لم يترك له ذلك سوى خيار إعادة التفاوض مع طالبان.
في رأي كلا الرئيسين، قدم اتفاق إحلال السلام مع طالبان فرصة جيدة لمتابعة أجندتهم الخاصة فيما يتعلق بأطول حرب أمريكية. ولم يبد أي منهما أي ندم على القيام بذلك.
قال أنتوني كوردسمان، خبير الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "طرحت مغادرة القوات فكرة بذل جهد للسلام، من ثم يمسي إلقاء اللوم على الأفغان لعدم توصلهم إلى اتفاق سلام غطاءً جيداً للمغادرة كأي غطاء آخر".
واشنطن بوست