تحلّق ملايين الطيور حول العالم كل عام في رحلات هجرة موسمية مذهلة، حيث تقطع آلاف الكيلومترات بين القارات دون أن تضل طريقها، طائر خطاف البحر القطبي (Arctic tern)، على سبيل المثال، يقطع في حياته مسافة تعادل الذهاب إلى القمر والعودة، لكن ما السر وراء هذه القدرة الخارقة على الملاحة الجوية؟
البصر والشم أول دليل في الطريق
تعتمد الطيور في البداية على حاستي البصر والشم، فبعضها يتعرف على معالم بارزة كالأنهار والجبال، بينما تعتمد الطيور التي تطير فوق المسطحات المائية على حاسة الشم بشكل أكبر، فقد أظهرت دراسة أن طائر "النو القطبي" (Scopoli's shearwater) يفقد قدرته على الملاحة فوق الماء عند تعطيل فتحاته الأنفية، رغم تمكنه من الطيران فوق اليابسة.
البوصلة الشمسية والنجمية
الطيور التي تطير في النهار تستخدم "بوصلة شمسية" تدمج بين موقع الشمس في السماء وساعتها البيولوجية الداخلية.
أما الطيور الليلية، فهي تعتمد على "البوصلة النجمية"، حيث تتعلم موقع النجوم حول القطب السماوي، وبشكل خاص النجم القطبي (Polaris) لتحديد اتجاهها، تماما كما فعل البشر منذ آلاف السنين.
الاستقبال المغناطيسي
عندما تُغلق السماء بالغيوم، وتختفي الشمس والنجوم، تلجأ الطيور إلى سلاح سري: الاستقبال المغناطيسي (Magnetoreception).
هذه الحاسة تمكّن الطيور من استشعار الحقل المغناطيسي الأرضي، والذي ينشأ من المعادن المنصهرة في لبّ الأرض. وقد أثبتت الدراسات أن التلاعب بالحقل المغناطيسي يؤدي إلى تشويش في توجيه الحمام الزاجل، ما يُظهر أهمية هذه الحاسة.
الدور الغامض لجزيء "كريبتوكروم"
تشير أحدث الأبحاث إلى أن جزيء يُسمى "كريبتوكروم" (Cryptochrome) والموجود في شبكية عين الطيور قد يكون المفتاح البيولوجي للاستقبال المغناطيسي. هذا الجزيء يتفاعل مع الحقول المغناطيسية، لكن عمله يتطلب الضوء الأزرق.
ومع أن هذه الاكتشافات واعدة، إلا أن العلماء ما زالوا يجهلون كيف يمكن لجزيئات بهذا الحجم أن تلتقط تغيّرات دقيقة في الحقل المغناطيسي.
أنظمة مزدوجة للملاحة
إلى جانب العين، تشير بعض الأبحاث إلى وجود مستقبلات مغناطيسية في مناقير الطيور تتفاعل مع معدن "الماغنيتايت"، وترتبط بأعصاب توصل إشاراتها إلى الدماغ، كما أن الطيور قادرة على تحليل الضوء المستقطب لتحديد موقع الشمس حتى في الأجواء الغائمة.
تماما كما يستخدم البشر حواسا مختلفة بحسب الظرف، توظف الطيور حواسها المتنوعة حسب الحاجة، وتدمج إشاراتها بذكاء.
لكن هذا النظام ليس مثاليا دوما، فعلى سبيل المثال، يصبح الاستقبال المغناطيسي أقل دقة أثناء العواصف أو عند النشاط الشمسي المرتفع الذي يشوش على المجال المغناطيسي الأرضي.
الهجرة محفورة في الجينات
لا تقتصر الملاحة على التدريب والخبرة فقط، بل إن الرغبة في الهجرة موروثة جينيا، فالميل للهجرة، واتجاهها، ومسافتها، كلها مرتبطة بجينات الطيور، ويسعى الباحثون حاليا لتحديد هذه الجينات بدقة، وفهم آلية عملها.
فهم أنظمة الملاحة لدى الطيور لا يخدم فقط العلم، بل هو أساسي لحمايتها، إذ تُظهر الأبحاث أن محاولات البشر لنقل الطيور إلى بيئات جديدة تفشل غالبا، لأن الطيور ببساطة تعود إلى موطنها الأصلي بفضل مهاراتها الملاحية العالية.
إن معرفة الطيور طريقها بدقة مذهلة ليس نتيجة حاسة واحدة، بل نتيجة منظومة حسية بيولوجية مذهلة، بعضها ما زال غامضا على العلم البشري، ومع تعمق البحث في هذا المجال، قد نصل ليس فقط إلى فهم أعمق لعالم الطيور، بل إلى تقنيات مستقبلية تحاكي نظامها المذهل في الملاحة.
Live Science