الرأي

أعجوبة الردع اللبنانية .. حين يعيد حزب الله فصول "الجريمة والعقاب"

يوسف فارس

3 آب 2020 11:27

تبدأ إسرائيل الحكاية حين تقوم طائراتها بعدوان أصبح روتينيا على دمشق تسقط أحد الصواريخ التي خانها ذكاؤها في موقع قرب مطار العاصمة السورية حيث يعمل هناك واحد من كوادر حزب الله يعلن الحزب


تبدأ "إسرائيل" الحكاية، حين تقوم طائراتها بعدوان -أصبح روتينياً- على دمشق، تسقط أحد الصواريخ التي خانها ذكاؤها، في موقعٍ قرب مطار العاصمة السورية، حيث يعمل هناك، واحدُ من كوادر حزب الله، يعلن الحزب اللبناني في اليوم التالي 21-7-2020، في بيان مقتضب، أن علي كامل محسن، قضى في العدوان الإسرائيلي، يدخل الجيش الأقوى في المنطقة اللعبة، بالطريقة التي شاءها وأرادها الحزب الجنوبي، "على رجل ونصف" أو باللهجة اللبنانية العجيبة "اجر ونص".

السردية السابقة، تحدد الإطار البانورامي لمجرى الحدث المستمر منذ 13 يوماً، "جيش إسرائيل" ينتظر الرد، يعيش حالة استنفارٍ قصوى، يريد أن يقتل عدد من جنوده كي ينتهي الحدث، وجنوده، أصبحوا يقاتلون ظلالهم، وخيالاتهم وهواجسهم.

انقلبت أحد عرباتهم بعد يومين من الاستنفار، قتل أحدهم، ثم بعد أيام أطلقوا النار على سراب خلية اجتازت السياج، واجترح إعلامهم غطاءً للفضيحة التي تكشفت خيوطها لاحقاً، ثم وفي ليلة اليوم الثاني، أعادوا الكرة، واشتبهوا بأشباح تتجول في الجليل، فأطلقوا النار هناك.

حرفياً، يقف "جيش إسرائيل العظيم" على "اجر ونص" هذه حقيقة، لا اللبيب والغبي بحاجة إلى إشارة كي يفهم، سيجتهد من امتهن التثبيط والتخاذل حرفة، في تقديم روايات مغايرة، سيحاولون تسخيف ما هو جدي، لكن، وفي خلاصة الأمر، لا إسرائيل وحزب الله، ولا حتى جدتي العجوز، سيثيرها ما يقولون.

ليس من التحمس القول إن حزب الله بنى "أعجوبة ردعية"، ربما لم تنجح دول كبرى طوال سنوات الصراع مع دولة الاحتلال على ابداع مثلها، ليس ما يحدث اليوم وليد السنوات العشر الماضية، إنما هو ثمرة المواجهة المدروسة التي خاضها الحزب مع الاحتلال منذ مطلع الثمانينيات.

تعيدنا تجربة الحزب اللبناني لمراجعة السلوك النضالي الذي مارسته القوى الفلسطينية مع الاحتلال منذ بداية تشكل أولى التجارب العسكرية المؤثرة، المتمثلة في حركة فتح عام 1965، ولأن ما يهمنا هو المراس العسكري لتلك التجربة، فإنها من الجيد التخلي عن التبجيل المطلق للتضحيات العظيمة التي قدمها شهداء الحركة، والوقف بشكل علمي على تأثير الكفاح الفلسطيني على الخط البياني لتحقيق الأهداف المرجوة.


وضوح الهدف

تقودنا مفردة "الأهداف" إلى أولى معضلات ومشاكل الجهد الفلسطيني المقاوم، لاسيما وأن الكفاح المسلح في محصلة الأمر هو وسيلة وليس هدفاً بذاته، لا أحد يقاتل لمجرد القتال، حتى المرتزقة يمتلكون هدفاً محدداً هو المال.
تظهر المفارقة الأولى في معضلة الأهداف تلك، بين التجربة الفلسطينية واللبنانية، في مسألة الوضوح، بمعنى، ما الذي كانت تريده منظمة التحرير من القتال، وما الذي كان يريده حزب الله.

حزب الله كان يريد تحرير بلاده المحتلة، الهدف واضح ومحدد وبسيط، ووظف ما يمتلك من إمكانيات على طريق تحقيق ذلك الهدف، أما حركة فتح ومنظمة التحرير، وبمعزل عن الشعارات الكبيرة، ما الذي كانت تريده، فقد تاهت بين توظيف السلاح لتحقيق الهدف المعلن، وهو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلى أهداف سياسية أخرى، تعنى بالدخول في لعبة السياسة وحلم الدولة _وصفها درويش بأنها أصغر من الفكرة_، التي قادت إلى تشكيل الكيان الفلسطيني المشوه في أعقاب اتفاق أوسلو.

وخلال سنوات الصراع، خلى الفعل العسكري للمنظمة، من أهم ركائزه، وهي التنظيم والاستراتيجيا، وخضع قرار تنفيذ العمليات الفدائية، إلى المزاج الشعبي وحماس الجماهير، أو الانتقام، أو حتى ذكرى انطلاق أحزاب المنظمة، أو محاولة لفت انتباه الدول الكبرى، بهدف فتح أبواب للدخول في معلب الاستثمار السياسي.

غير أن الطامة الكبرى، في سلوك المنظمة هو المحاولة الدائمة في استثمار التناقضات الدولية، بمعزل عن أي اعتبار  لمساحات التحالف، ولعله من المثير أن نذكر أن الشهيد علي حسن سلامة، الشهير بـ "الأمير الأحمر" كانت تربطه علاقة شخصية وثيقة بضابط المخابرات الأمريكي بوب آمز، وقد عقد معه اتفاقاً نفعياً مثيراً للريبة، تلخص في أن يحمي جنود حركة فتح القوات الأمريكية أثناء هروبها من لبنان في منتصف السبعينيات، في مقابل أن يؤمن "آمز" وساطة للرئيس ياسر عرفات، لإلقاء كلمة في الأمم المتحدة !

ثمة عشوائية كبيرة صبغت سلوك منظمة التحرير في آلية توظيف السلاح، ربما صدق شاعر المتناقضات (الثورة والتطبيع والاندماج مع المجتمع الإسرائيلي) محمود درويش، في وصفه للثورة الفلسطينية حين قال: حريتي فوضاي .. إني أعترف.

فوضى السلاح، لا تنتج، وحرب العصابات وجيوشها، ليست نقيضاً موضوعياً للجيوش النظامية، وليست العصابات إلا تنظيم مغاير لفلسفة الجيوش النظامية، وفي النهاية هي تنظيم.


في تجربة حركة فتح ذاتها، يجبرنا أبو عمار الذي يحمل شخصية جديرة بالكثير من الاحترام، والانتقاد أيضاً، للوقوف ملياً أمام خياره الثوري في التمرد على مخرجات كامب ديفد، بإشعاله الانتفاضة الثانية بشكل أو بآخر، تلك الانتفاضة العظيمة، التي تُرك للفوضى والطموحات المتباينة للأحزاب الفلسطينية أن تقودها، فلا أبو عمار، ولا الفصائل الأخرى عرفت ماذا تريد، هي جهد كفاحي غير منضبط، انتهى بإجهاض البنية التحتية للفصائل الفلسطينية في الضفة، وأدخل المشروع المقاوم في حالة من اليأس، دفعت شاباً رائعاً مثل باسل الأعرج، للتنظير لفكرة الاشتباك الثوري الفردي مع الاحتلال، الذي وإن أبقى على حالة الصراع مشعلة، فهو لن يقود بالقطع إلى نتائج مجدية وعملانية.

ذات يوم، اخبرني صديق عن أن أسيراً محرراً من الضفة الغربية قال له، إنه ما كان يجب أن تضرب العمليات الاستشهادية عمق دولة الاحتلال، وكان يجب أن يرتبط كل فعل مقاوم بهدف عملاني يمكن تحقيقه، كان هذا الرجل يرى، إن حصر الفعل المقاوم في أراضي الضفة الغربية ومناطق b , c  كان له أن يكون مجدياً أكثر من ضرب حيفا بمفخخة، في محصلة الأمر، يمكن للعقلية الأمنية الإسرائيلية أن تفكر في الخروج من الضفة، لكنها قطعاً، لن تخرج من حيفا وتل أبيب، لأن تفجيراً استهدف أحد المطاعم !!

يبدو الكلام وجيهاً، لكني وأنا المغمور بثورة الشعار، ما كنت لأقتنع به قبل عشرة سنوات من اليوم، يقول فيصل حوراني في روايته المذهلة "المحاصرون" أن : "الإفراط في الحماس غفلة، كما هو الافراط في اليأس".

 

أعجوبة الردع

بالعودة إلى حكاية الردع المثيرة في حزب الله، يبدو واضحاً أن حكاية تلك المعادلة لم يثبتها الحزب خلال سنوات المواجهة المعاصرة، هو ابدع في استخدام "أدوات الشرط" طوال مسيرة كفاحه، إذ ضربتم .. سنضرب، كان الحرف "إذا" مرافقاً لخطابات الأمين العام للحزب منذ بداية التسعينات.

وليس خطابه الأثير عام 2006، الذي ثبت فيه معادلة حماية بيروت: "إذا ضربتم بيروت، سنقصف تل أبيب" سوى تطبيق لنهج أُقر قديماً.

في مطلع التسعينيات، شاع استخدام المقاومة اللبنانية لصواريخ الكاتيوشا في استهداف المواقع الإسرائيلية ومستوطنات شمال فلسطين المحتلة، كانت تلك الهجمات قد تسببت بفوضى عارمة في الجبهة الداخلية لدولة الاحتلال، ما زاد من الضغط العسكري الإسرائيلي، الذي تمثل في استهداف قرى الجنوب اللبناني بقذائف الدبابات، صحيح أن ضرب المدنيين كان يعقب كل هجوم عسكري يقوم به المقاومون بتجاه مواقع الجيش الإسرائيلي، لكن حدة هذا القصف كانت تزداد عندما تستخدم المقاومة الكاتيوشا.

داخل أروقة حزب الله، جرى نقاش عميق حول ما تعانيه القرى اللبنانية في أعقاب كل عملية للمقاومة من قصف، خصوصاً أن بعض الأوساط الداخلية، ادعت أن سلاح المقاومة المنوط به تحرير الأرض وحماية أهلها، يجلب الوبال إليها.
ربما تمثل المعادلة الردعية التي صنعها الحزب في أعقاب عملية عناقيد الغضب عام 1996، باكورة فلسفة الردع في المقاومة، تمثلت المعادلة التي خلفها استخدام الكاتيوشا على نحو فعال، في أن كل قصف إسرائيلي بالدبابات سيقابله قصف من المقاومة بالكاتيوشا تجاه مستوطنات كريات شموني ونهاريا.
أذعنت "إسرائيل" للمعادلة، فصارت المقاومة تنفذ عمليات اقتحام المواقع، ولا تتجرأ "إسرائيل" على استهداف القرى الجنوبية بالقذائف.

واليوم، تحصد المقاومة اللبنانية سنوات حكمتها الطويلة، انضباطها الحازم، هدوئها، وتوظيفها الرشيد للسلاح، تجلس "إسرائيل" اليوم في وضعية دفاعية، مثل مريض يلوح له طبيبه "بالكماشة"، فيما هو يهون عليه ألم خلع ضرسه، عن الم انتظاره.

خلال الأيام الماضية، كثف المحللون العسكريون للصحف الإسرائيلية من كتاباتهم وتصريحاتهم في محاولة استدعاء الرد، أو فهم أبعاده، حددوا اطاراً زمنياً – قبل عيد الأضحى- تجاهله الحزب، تحدثوا عن آليته – ضرب صاروخ كورنيت- تجاهله الحزب أيضاً، مئات التصريحات اليومية التي تنتظر ردود فعل من بيئة المقاومة أو من صحافييها، ولا تجد سوى الصمت.

حزب الله الذي أكد أن رده الحتمي قادم، لم يفته التنويه إن اطلاق الجيش لقذيفة خلال "معركة الظلال"  أصابت أحد بيوت القرويين، سيقابله رد وعقاب، وهو فعلاً، بدأ بفصول رده منذ أعلن أن كادراً له استشهد في سوريا، إنها رواية  "الجريمة والعقاب"، يجسدها حزب الله على الكيانات والدول المارقة، حيث تبدأ فصول العقاب بعد ارتكاب الجريمة مباشرة، ويكون أشد قسوة من التعلق في حبل المشنقة أو الإعدام بكرسي الكهرباء؛ مع مفارقة نشير إليها حفظاً لحقوق الراوي – ديسكويفيسكي – وهي أن البطل ليس قاتلاً  نبيلاً كـ رسكيلنيكوف .

 

النهضة نيوز - بيروت

ملاحظة: الٓاراء السياسية الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن موقف "النهضة نيوز"